مع اقتراب دخول قانون العقوبات البديلة رقم 43.22 حيز التنفيذ في غشت 2025، تجد الدولة المغربية نفسها أمام لحظة مفصلية في مسار إصلاح العدالة الجنائية. فهل نحن بصدد تحول نوعي يعيد بناء فلسفة العقاب؟ أم أننا نغامر بخطوة غير محسوبة في ظل هشاشة البنية الاجتماعية والثقافية والمؤسساتية؟
هذا السؤال الكبير كان محور النقاش خلال اليومين الدراسيين اللذين نظمتهما رئاسة النيابة العامة بشراكة مع مجلس أوروبا، وبتنسيق مع المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج. لكن خلف النقاش الأكاديمي والرسمي، برزت إشكالات واقعية لا يمكن تجاهلها.
ما الفرق بين الردع والإصلاح؟ وهل تتحمل الدولة كلفة هذا التحول؟
العديد من المختصين أشاروا إلى أن كلفة العقوبات البديلة “أقل بكثير من كلفة السجن التقليدي”، من حيث الإنفاق على البنية التحتية والرعاية داخل المؤسسات السجنية. لكن المسألة ليست محاسبية فقط. فهل تتوفر الدولة على الإمكانيات المؤسساتية والبشرية لتأطير هذا النوع الجديد من العقوبات؟
وهل لدينا فعلاً تصور اجتماعي إيجابي حول العقوبة خارج جدران السجن؟
المحامي محمد ألمو، من هيئة الرباط، كان صريحًا حين قال إن “العقوبة السجنية أصبحت تُنمّي النزعة الإجرامية بدل إصلاحها”، مشيرًا إلى أن السجون لم تعد قادرة على استيعاب المهام التأهيلية، ما يجعل العقوبات البديلة فرصة لتحسين السياسة الجنائية.
لكن بالمقابل، ألمو يطرح تحديات جوهرية:
من سينفذ العقوبات البديلة في الشارع العام؟
كيف سيتم التنسيق بين مندوبيات السجون، والسلطات المحلية، والمؤسسات المستقبِلة؟
وهل لدى من سيتعاملون مع المدانين أثناء تنفيذ العقوبة، تكوين سوسيولوجي ونفسي كافٍ لذلك؟
نظرة المجتمع.. هل يعتبر المغاربة العقوبات البديلة نوعًا من “شراء أيام السجن”؟
تُظهر التجربة المقارنة أن نجاح العقوبات البديلة مرتبط بمدى قبولها داخل المجتمع. في المغرب، لا يزال جزء كبير من الرأي العام يعتبر أن العقوبة الحقيقية هي السجن، وأن أي بديل آخر هو تساهل غير مبرر.
فكيف سنغير هذه الثقافة؟ وهل لدى الدولة خطة تواصلية تُمهّد للرأي العام هذا الانتقال المفاهيمي من “الردع الانتقامي” إلى “الردع التأهيلي”؟ ثم كيف سيتم التعامل مع حالات رفض المحكوم عليهم تنفيذ الخدمة العمومية؟ القانون ينص على استبدالها بالسجن في هذه الحالة، لكن ألن يُفرغ ذلك العقوبة البديلة من مضمونها الإصلاحي؟
هل تشمل العقوبات البديلة جميع الجرائم؟ وأين هي الحدود؟
من بين الإشكالات التي أثارها المحامون أيضًا: توسيع لائحة الاستثناءات. فهل من المقبول، أخلاقيًا وقانونيًا، أن يستفيد مرتكبو جرائم مثل النصب والاحتيال أو العنف ضد النساء من عقوبات بديلة؟
المادة التشريعية الحالية لا تقدم أجوبة حاسمة، مما يفتح الباب لتأويلات قد تُضعف ثقة المواطن في العدالة.
السياق المغربي.. هل يهيّئ الأرضية فعلاً؟
شعيب حارث، محام بهيئة الدار البيضاء، أشار إلى أن البيئة الاجتماعية في المغرب قد تُضعف أثر هذه العقوبات، خصوصًا إذا لم ترافقها سياسة تواصل عمومي، ودعم لوجستيكي، وتكوين مهني للأطراف المتدخلة.
فالردع، كما يقول، لا يعني فقط إنزال العقوبة، بل ضمان شعور عام بأن القانون يُطبّق بفعالية وعدالة.
خلاصة: بين النظرية والتطبيق.. من سيربح المعركة؟
المغرب على أبواب مرحلة جديدة في هندسة العدالة الجنائية. العقوبات البديلة ليست مجرد أدوات تنفيذ، بل فلسفة قانونية تسعى إلى المواءمة بين الردع والإصلاح، بين الحق العام وحقوق الأفراد.
لكن نجاحها رهين بإجابات صعبة:
-
هل نملك الموارد والمؤسسات والكوادر الكفيلة بإنجاحها؟
-
هل هناك إرادة سياسية لتغيير النظرة المجتمعية للعقوبة؟
-
وهل نجرؤ على المضي في إصلاح حقيقي يتجاوز الطابع الرمزي؟