في عالم يتأرجح بين الكوارث الطبيعية غير المتوقعة، والأزمات المناخية المتكررة، والمخاطر الصناعية والكيميائية المتزايدة، يختار المغرب أن يُفاجئ الكارثة قبل أن تفاجئه. من قلب جماعة عامر بعمالة سلا، أطلق الملك محمد السادس مشروعًا غير مسبوق في المنطقة: منصة المخزون والاحتياطات الأولية، ليس فقط كمنشأة لوجستية ضخمة، بل كتصور جديد لعلاقة الدولة بالمواطن في أوقات الخطر.
هل نحن أمام تحول في بنية الدولة نفسها؟ وهل تشكل هذه الخطوة بداية لما يمكن تسميته بـ”المغرب الاستباقي”؟
هذه المبادرة ليست مجرد رد فعل على زلزال الحوز أو فيضانات السنوات الماضية، بل تحمل بذور قطيعة هادئة مع ثقافة الترقب والانتظار. إنها إعلان سياسي وإنساني في آن، بأن أمن الإنسان وكرامته لم يعودا مجرد شعارات دستورية، بل أولوية لوجستية مدروسة على الأرض.
رؤية ملكية استباقية تُعيد رسم خريطة إدارة الكوارث
منصة المخزون والاحتياطات الأولية التي أطلقها العاهل المغربي الملك محمد السادس، رفقة ولي العهد الأمير مولاي الحسن، ليست منشأة تخزين تقليدية، بل نواة لبنية لوجستية متقدمة تُؤسس لتحول نوعي في منهجية المملكة في التعامل مع الكوارث والأزمات.
ففي وقت تتزايد فيه التهديدات المناخية والتقنية على مستوى العالم، تعكس هذه الخطوة الملكية رؤية استشرافية لا تكتفي برد الفعل بل تُراهن على الجاهزية، وعلى تقريب المساعدة الإنسانية من المواطن بدل انتظار تحرك المركز.
تضامن في خدمة الأمن الإنساني
تجسيدًا لمبدأ “الإنسان أولًا”، يشير المشروع إلى أن التضامن لم يعد سلوكًا ظرفيًا، بل بُعدًا بنيويًا في استراتيجية الدولة. فهل ننتقل من مفهوم “المخزن” التقليدي إلى مفهوم “المخزون” الاستراتيجي؟
يبدو أن المغرب يضع حجر الأساس لنموذج جديد يتعامل مع التضامن لا بوصفه مشاعر شعبية فقط، بل منظومة متكاملة تعتمد التخطيط واللوجستيك والإدارة الذكية للموارد في ظروف الطوارئ.
من زلزال الحوز إلى مخاطر المستقبل
كثيرون يرون في زلزال الحوز لحظة فارقة في وعي الدولة بضرورة إعادة هيكلة منظومة إدارة المخاطر. فهل شكلت تلك الكارثة نقطة التحول الحاسمة؟
في الواقع، تعكس المنصة استيعابًا عميقًا للدروس، واعترافًا ضمنيًا بأن سرعة الاستجابة وحسن توزيع الموارد هما العاملان الحاسمان في تقليص الخسائر. المشروع يُمثل استثمارًا في الزمن؛ أي في التوقيت الذهبي لإنقاذ الأرواح.
ماذا تتضمن المنصة؟ وما أبعادها؟
وفقًا للمعطيات الرسمية، ستُنجز المنصة على مساحة 20 هكتارًا بميزانية تُقدر بـ28.78 مليون دولار، وستضم أربعة مستودعات ضخمة (5 آلاف متر مربع لكل واحد)، وحظيرتين للمعدات، ومهبطًا للمروحيات، ومواقف سيارات، ما يؤهلها لتكون مركزًا لوجستيًا متعدد الوظائف.
السؤال هنا: هل يمكن تعميم هذا النموذج على باقي جهات المملكة؟ وهل سنشهد في المستقبل القريب شبكة وطنية متكاملة لمنصات المخزون تُحول المغرب إلى نموذج إقليمي في الاستعدادات الوقائية؟
بنية لوجستية لمغرب جديد
البنية التحتية ليست فقط وسيلة للنقل أو التخزين، بل تُصبح في هذا السياق أداة سيادية لحماية المواطنين. المنصة ستُمكن من تخزين وتوزيع الخيام، الأغطية، الأدوية، المواد الغذائية، وكل ما يمكن أن يُنقذ حياة الإنسان في اللحظات الحرجة.
هنا، يبرز تساؤل مهم: هل بدأ المغرب يتحول من دولة إدارة الأزمات إلى دولة إدارة المخاطر؟ أي من رد الفعل إلى الوقاية الفعالة والاستعداد المسبق؟
أبعاد استراتيجية تتجاوز الإغاثة
تُؤكد هذه المبادرة أن الملكية المغربية تنظر إلى إدارة الكوارث من منظور العدالة المجالية، فليست الرباط وحدها المعنية، بل المشروع يأتي ضمن تصور ملكي بإنشاء منصات مماثلة في جميع جهات المملكة.
هذا التوجه يعزز مقومات اللامركزية ويمنح الجهات استقلالية أكبر في إدارة الكوارث، وهو ما يعيد طرح سؤال التمكين المؤسساتي واللوجستي للجهات: هل البنيات الجهوية مستعدة لتحمل هذا النوع من المسؤوليات؟
في الختام: من التخزين إلى الطمأنينة
إن منصة المخزون والاحتياطات الأولية ليست فقط مركزًا للتخزين، بل صرحًا للطمأنينة المجتمعية، ومؤشرًا على أن الدولة بدأت تستثمر في الأمن الإنساني كأولوية قصوى.
في زمن الأزمات العابرة للحدود، تصبح القدرة على التوقع والتدخل الفوري أحد مؤشرات نضج الدولة الحديثة. والمغرب، من خلال هذه المبادرة الملكية، يُرسل رسالة قوية بأن الحماية لم تعد خيارًا بل حقًا، وأن زمن التردد قد ولى، وأن الكوارث لا تُدار فقط بالشجاعة، بل أيضًا بالعقل والتخطيط والدقة.