دراسة نقدية لديوان (فم الزمان) للشاعر ضمد كاظم الوسمي

0
297
الناقد عبدالباري المالكي

ربما لم نكن ندرك من قبل أن للزمان فماً ذا أضراس تهثم الأحياء ، حتى أطل الوسمي علينا بجسده الكليل فكان خير شاهدٍ لزمان عاتٍ، فمن صروفهِ عرف الرحيل ومعناه ، وبه اصاب علو اللسان ومغناه ، وفيه أجاد قوة الأداء بحديث عن الأسلاف الأحبة وماالتذّ منهم من خصيصاتهم ، ومااستطعمه فيهم من حكاياتهم ، ومااستمرأ من خلة لهم طويلة ، وصحبة معهم جميلة .

ولعل الأيام وسبلها المتشعبة هي ماجعلت شاعرنا يشكو ما ألمّت به يد القدر العابثة في ركن مهشم ، وما رسمته الغمائم في صفحة سمائه ذات الستين حولاً ، إذ ليس في كل مفاتن الطبيعة وروائع الحياة مايحرك باطنه إلا لعنة الدهر ودواهي الأيام التي أرَته في نفسه وهناً من بلوى ، فلاينقذه مما منَته ُ صنوف البلاء بغدرٍ حاضر وأمانيّ مسلوبة سوى العودة الى الرب الذي يرفع عنه الخمول والحسرة أينما وجدهما فيه ، وهو يرى في ذلك الرب نوراً يعصمه من غرقٍ بطوفان الأوحال النفسية مدفوناً بقبرٍ في بُكمهِ العجيب ، وأي بُكمٍ أعظم مما أصيب به شاعرنا المنكود الذي لايكفيه النطق ما بين غواية وهداية ، ومابين طلولٍ وذكرى ، وأكذوبةٍ كبرى .

فهو على الرغم من معرفته بأن الشعراء يتبعهم الغاوون إلا أنه اعتزم أن يكون شاعراً ، وهو عليمٌ بأن من أراد ان يدين بدين الشعر فعليه أن يجول في ميدانِ ذهنٍ مشبوب ، وعواطفَ سخية .

لقد جال شاعرنا في شوارع الأدب حاملاً على كتفه الخائرة قيثارة ً لطالما أطربتنا بها أنامله المحنّاة بالآه ، وأوجعتنا بما يلُوح في قسمات محيّاه ، من أسى وشكوى ، وهو يتنقل مابين ليلٍ أحكم اوقاته عليه ، ونهارٍ غادره ُ كخاطرة مرت عليه بسرعة البرق الخاطف ، وقد أحاط بصروف الدهر ، واطلع على قدرٍ بما تواري له ايامه بعض جروحه من شظاياها التي استقرت في جسده الخامل ، وطعناتها العديدة التي انتثرت في وجهه وقفاه كما لو كان فلاح ٌ ينثر بذوره في أرضه .

ولشاعرنا الوسمي طرس بأصداء متقطعة ، وقلم بأصوات مبحوحة ، فقد ألمّت به فاجعة ، وهاج به الوجد حتى لَيُخيَّل إلينا لكثرة شكواه أنه هو المنعيّ لا الناعي .

ويعدو الوسمي في غياهب فم زمانه الذي لاينصفه ، حتى اذا تظاهر له بالإطمئنان كان له حِمام البين بالمرصاد ، فيفطن إلى أن ارتياحه له كان رهناً لأوهام دانية راودته فعرف أنها العلة التي نخرت حياته سنة بعد سنة ، هذه العلة التي كانت تسقمه بألف حجة دون ذنب اقترفه سوى أنه هجر الكأس والشادي ، لاسيما أنه لم يكن محتاطاً لذلك الدهر الذي روّع فيه جليلاً ، وقبّح في فمهِ لذيذاً ، وأحجمَ عنه متعةً سلوى ، وأعافه عن مستظرِف يلهى ، وقطع عنه ساعات بهجتهِ ، فجعله للديدان هزواً تقتتل للثأر منه ، وسخرية للنوى الذي تجرّعَه ، فأسقاه كأس لوعةٍ ليصرعَه ، وربّاه ُ كسير َ قلبِ دون أن يرضعَه ، واغتال دمعته في ظلمةِ جُبّ ، وقيّده ُ بسرابيل من قطران بحجةِ ذنب .

وفم ُ الزمان نفسه ُ قد نفح على (الوسمي ) بما جعله يحتسي الألم والمضض بديلاً عن الخمرة والدِعة ، وان كان في ما مضى غرّيداً لعينَي حسنائه وقد اشرأب لها فؤاده في محرابها ، وبات يرتقب أجفانه في أجفانها ، فكان غاية مايرجو في حياته أن يفوز بلحاظها ، تنسيه الليل إذا سجى ، يخلد الى السكوت ليصدح شعراً ، ويحبس الدمع في عينيه ، وينأى بآماله به عن دائرة القدر الضيقة .

إن الوسمي قد ورد شرعةَ غرامٍ تحدّر فيه ، مابين حلمٍ حلمَه ُ ،

وعتاب ِ عاذلٍ لامَه ُ ، دون أن يتحرج من أن يبلَّ طرف لسانهِ من معينهِ الفيّاض ، فاتسعت ْعنده مذاهب الشوق حين هم ّ أن يبتدئ الحكاية ، وتعلّق في فضاء وجه معشوقته المشرق في ليل من تحت العباية .

وخلافاً لما قيل أن أعذب الشعر أكذبه … فقد كان شاعرنا أنموذجاً لشاعر امتهن وظيفته بصدق ، فأصبح بين فكّي الزمان بحق ، حتى لم يعد له حمل إلا أعياه ، ولا قصيدة الا روت بؤسه ، بين كلمٍ حلو ، ومعنى صادق ، أذاقه جمراً ودرباً موحشاً دون نجمٍ يهديه ، ولا حادٍ يحتديه .