لم يكن اختيار مدينة طنجة كمحطة ختامية لجولة “مسار الإنجازات” مجرد قرار تنظيمي لحزب التجمع الوطني للأحرار، بقدر ما بدا اختياراً محمّلاً بدلالات رمزية وتنموية، في مدينة تُقدَّم عادةً كنموذج لسياسات الاستثمار والانفتاح، وكنقطة التقاء بين الرهان الاقتصادي والامتداد الاجتماعي للدولة.
من هذا الفضاء، وجّه رئيس الحزب ورئيس الحكومة عزيز أخنوش خطاباً سياسياً حاول أن يزاوج بين عرض الحصيلة، والدفاع عن منسوب الانسجام داخل الأغلبية، واستباق المرحلة المقبلة بخطاب أقل احتفالية وأكثر وعداً بالنقاش.
تماسك الأغلبية… رسالة إلى الداخل أكثر من الخارج
اللافت في مستهل كلمة أخنوش، كان تركيزه المتكرر على “وحدة وتماسك الأغلبية الحكومية”، باعتبارها شرطاً مركزياً لنجاح الإصلاحات. وهو تأكيد، وإن جاء في سياق الإشادة بالعمل الجماعي، إلا أنه يعكس في العمق إدراكاً لحساسية المرحلة، حيث يتحول الانسجام الحكومي إلى عنصر دفاعي في مواجهة الانتقادات المتصاعدة حول نجاعة السياسات العمومية وحدود أثرها الاجتماعي.
حديث أخنوش عن “رد الاعتبار لمؤسسة رئاسة الحكومة” وتدبير الخلافات “بعيداً عن الصراعات الهامشية”، يمكن قراءته أيضاً كرسالة تطمين سياسية، مفادها أن الاختلافات داخل التحالف لم تتحول إلى عائق بنيوي، وأن الحكومة ما تزال تقدم نفسها كجسم تنفيذي موحد، رغم ضغط الملفات الاجتماعية والاقتصادية منذ 2021.
من “مسار الإنجازات” إلى “مسار المستقبل”: تغيير في الخطاب أم في المنهج؟
إعلان أخنوش عن إصدار كتاب “مسار الإنجازات” في ختام جولة دامت ثمانية أشهر، بدا بمثابة توثيق سياسي لتجربة تواصلية أراد الحزب أن يمنحها طابع “العمل الجماعي”، القائم على الاستماع والمقترحات، لا مجرد عرض إنجازات جاهزة.
غير أن الأهم في الخطاب كان الانتقال إلى الحديث عن “مسار المستقبل”، وهو عنوان يوحي بتحول في نبرة الخطاب أكثر منه قطيعة مع السابق. فالدعوة إلى تعميق النقاش مع الخبراء والشباب والمهنيين حول الصحة والتعليم والتشغيل والقدرة الشرائية، تعكس اعترافاً ضمنياً بأن هذه الملفات، رغم ما تحقق فيها، ما تزال تمثل نقاط توتر اجتماعي وسياسي.
القدرة الشرائية، التي وصفها أخنوش بـ”اللازمة” في لقاءات الحزب، تظل هنا المؤشر الأوضح على الفجوة بين المؤشرات الماكرو-اقتصادية التي تُعرض، والواقع المعيشي الذي يستدعي مزيداً من الإقناع.
الأرقام كحجة سياسية: اقتصاد يمول الاجتماعية
في قلب الخطاب، استعاد رئيس الحكومة لغة الأرقام، مقدماً صورة لاقتصاد وطني “حيوي” مع نهاية 2025: نمو متوقع في حدود 5%، تراجع حاد في التضخم، انخفاض العجز الميزانياتي، وتقليص المديونية.
هذه المعطيات لم تُطرح كإنجاز تقني بقدر ما وُظفت كحجة سياسية، لتأكيد أطروحة مركزية: أن الدولة الاجتماعية لم تكن لتتحقق لولا اختيارات اقتصادية “متوازنة”. ومن هنا، ربط أخنوش بين تحسن المؤشرات المالية وقدرة الدولة على تمويل الدعم المباشر لأربعة ملايين أسرة، وتعميم التغطية الصحية “أمو تضامن” للفئات نفسها.
غير أن هذا الربط، وإن كان منسجماً من حيث المنطق الحكومي، يظل مفتوحاً على نقاش أوسع حول استدامة هذا النموذج، وحدود تأثيره الفعلي على تقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية.
التواصل كأداة شرعية… لا كترف حزبي
في دفاعه عن الجولة التواصلية، شدد أخنوش على أن العلاقة مع المواطن “ليست موسمية”، مستعرضاً أرقام المشاركة والإنصات، سواء في اللقاءات الجهوية أو عبر منصة “إنصات”. وهو تأكيد يندرج ضمن سعي الحزب إلى إعادة الاعتبار للتواصل السياسي كجزء من الشرعية، لا مجرد واجهة.
تصريحه بأن الحزب “لا يهاب النقد” وأنه سمع “ما لم يُنجز بعد”، يضع الخطاب في منطقة وسطى بين الاعتراف والاحتراز، دون الدخول في تقييم صريح لحجم الفجوة بين الوعود والانتظارات.
بين البوصلة الملكية ورهان التقييم
في ختام كلمته، أعاد أخنوش التأكيد على مركزية التوجيهات الملكية باعتبارها “خارطة الطريق”، وهو استحضار يرسّخ الإطار المرجعي العام للعمل الحكومي، ويمنح الخطاب بعداً مؤسساتياً يتجاوز الحسابات الحزبية الضيقة.
لكن يبقى أن رهان الحكومة، كما عكسه خطاب طنجة، لم يعد فقط في عرض المنجزات، بل في القدرة على إقناع فئات أوسع بأن “الدولة الاجتماعية” ليست مجرد سياسة دعم، بل مسار مستدام، قابل للتقييم والمساءلة، بقدر ما هو قابل للتثمين.
وفي هذا المعنى، يبدو أن “مسار الإنجازات” لم يكن نهاية جولة فقط، بل بداية مرحلة أكثر حساسية، حيث سيُقاس الخطاب لا بنبرة التفاؤل، بل بملامسة أثره في حياة المواطنين.