إصلاح التعليم بين الخطاب السيادي والتحدي المجتمعي: هل يكفي المال لإعادة الثقة في المدرسة العمومية؟
في لحظة سياسية دقيقة تزداد فيها الأسئلة حول مآلات “الدولة الاجتماعية” التي بشّرت بها حكومة عزيز أخنوش، اختار رئيس الحكومة أن يطلّ من تحت قبة البرلمان حاملاً عنواناً استراتيجياً: إصلاح التعليم من مدرسة الريادة إلى جامعة التميز.
لكن خلف هذا العنوان البراق، يُطرح سؤال مركزي: هل يتعلق الأمر فعلاً بتحول هيكلي للمنظومة التعليمية أم بمجرد تحسينات ظرفية محكومة بمنطق التسيير المالي والتقني؟
في كلمته أمام مجلس النواب، بدا أخنوش حريصًا على إبراز ما وصفه بـ”المؤشرات الإيجابية” التي سجلتها السياسات العمومية في قطاع التربية خلال السنوات الأخيرة. غير أن الخطاب لم يخلُ من توجيهٍ سياسي واضح: إصلاح التعليم لم يعد مجرد خيار تقني، بل أصبح اختياراً سيادياً يعكس رؤية الدولة لمستقبلها الاجتماعي والاقتصادي.
المال وحده لا يبني ثقة مفقودة
منذ 2019، ارتفعت الميزانية المخصصة لقطاع التعليم من 68 إلى أكثر من 85 مليار درهم، ويتوقع أن تُعبّأ 9.5 مليارات إضافية سنويًا حتى 2027. هذه الأرقام تعكس بلا شك مجهودًا ماليًا غير مسبوق. لكن هل تكفي الميزانيات الضخمة لبناء مدرسة عمومية جاذبة ومواطِنة؟ هل الإصلاح الحقيقي في التعليم يُقاس فقط بمستوى الإنفاق، أم في جودة المخرجات والثقة المجتمعية؟
أخنوش نفسه أجاب ضمنيًا عن ذلك، حين قال إن “الهاجس المشترك للحكومة والبرلمان هو إعادة بناء الثقة في المدرسة العمومية لدى الأسرة المغربية”. لكن الثقة ليست عملية تقنية، بل هي نتاج تفاعل طويل بين السياسات العمومية وواقع الأسر التي أصبحت ترى في التعليم الخصوصي خيارًا اضطراريًا للهروب من مدرسة عمومية تعاني من الاكتظاظ وهشاشة البنية التحتية وضعف الكفاءة التربوية.
التعليم كرافعة للتماسك الوطني.. أم كعب أخيل الدولة الاجتماعية؟
خطاب رئيس الحكومة حاول أن يرسم صورة متفائلة: إصلاحٌ شامل، رهانات استراتيجية، وقيادة ملكية حريصة على تجويد المنظومة. لكنه لم يجب بوضوح عن المعضلة التالية: ما هو النموذج القيمي والتربوي الذي نسعى لبنائه؟ وهل يراعي هذا النموذج تحولات المجتمع المغربي، وتحديات الجيل الرقمي، وتباينات المركز والهامش؟
ثم إن ربط التعليم بـ”الدولة الاجتماعية” يبدو في ظاهره منطقياً، لكنه يطرح سؤالاً أعمق: هل تحوّلت المدرسة إلى أداة دمج اجتماعي حقيقية؟ أم أنها لا تزال تُعيد إنتاج الفوارق الطبقية وتكرّس نمطاً من التمدرس يُؤهّل أقلية محظوظة للنجاح ويترك الأغلبية في دائرة الفشل البنيوي؟
حين يصبح التعليم رهاناً سياسياً
إشارة أخنوش إلى أن “إصلاح التعليم اختيار سياسي بأبعاد سيادية” ليست اعتباطية. فهي تعني ضمنًا أن الدولة – وليس فقط الحكومة – قررت استعادة زمام المبادرة في قطاع ظل لسنوات ساحة تجريب فوضوي بين “الميثاق الوطني” و”الرؤية الاستراتيجية” و”القانون الإطار”.
لكن هذا الإعلان السيادي يحمّل الدولة أيضًا مسؤولية سياسية وتاريخية: هل نحن بصدد بناء مدرسة تُخرج أجيالاً قادرة على الابتكار والمنافسة؟ أم أننا نُعيد ترميم نفس النموذج الذي أنتج عقودًا من العطالة المقنّعة؟
كلمة أخيرة: مدرسة الثقة أم خطاب التعبئة؟
المعضلة الكبرى أن المغاربة لم يعودوا يقيسون السياسات بالخطابات، بل بالتجربة اليومية: هل تحسّن مستوى تعليم أبنائهم؟ هل تغيرت علاقة الأستاذ بولي الأمر؟ هل باتت الجامعة فعلاً فضاءً للتميز لا للانتظار؟ وهل يُقاس التميز بترتيب دولي أم بقدرة الخريجين على التأثير في سوق العمل وبناء اقتصاد المعرفة؟
إصلاح التعليم ليس عنواناً للاستهلاك السياسي. إنه التحدي الأكبر لبناء مغرب المستقبل. لكن قبل الوصول إلى “جامعة التميز”، يجب إنقاذ “مدرسة الكرامة”. وهنا تحديداً يبدأ الإصلاح الحقيقي.