بين إسقاط الطائرة والاتهامات برعاية الإرهاب… أي سياق إقليمي يحكم هذا التصعيد الدبلوماسي؟
في تطور خطير وغير مسبوق في علاقات الجزائر مع ثلاث دول محورية في الساحل، استدعت الجزائر، يوم الإثنين، سفراءها في مالي والنيجر للتشاور، وعلّقت اعتماد سفيرها الجديد في بوركينا فاسو، وذلك ردًا على بيان مشترك صادم صدر عن هذه الدول اتهم الجزائر بدعم ما وصفوه بـ”الإرهاب الدولي”.
البيان الثلاثي، الذي صدر الأحد، أعقبته تصريحات رسمية من الخارجية المالية تُدين ما اعتبرته “عملاً عدائياً مباشراً” تمثل في إسقاط طائرة استطلاع ماليّة قرب الحدود الجزائرية. فهل نحن أمام تصعيد عابر نتيجة حادث تقني؟ أم بداية تفكك نهائي لما تبقى من خيوط الثقة بين الجزائر وشركائها التقليديين في الساحل؟
صراع الطائرات والصيغ الدبلوماسية: منطق الاتهام المتبادل
وزارة الخارجية الجزائرية لم تنتظر طويلًا للرد، ووصف بيانها الاتهامات الموجهة إليها بـ”الباطلة والعبثية”، معتبرة إياها مجرد محاولة للتغطية على ما وصفته بـ”الفشل الذريع للطغمة الانقلابية” التي تحكم مالي. هذا الخطاب الحاد يعكس تحوّلًا في اللهجة الجزائرية، التي ظلت لعقود تدعو للحوار والحلول التوافقية في الساحل، ولكنها اليوم تتهم السلطات المالية بـ”افتراس الموارد بدلًا من التنمية”.
فهل انقلبت الأدوار؟ الجزائر التي لطالما لعبت دور الوسيط والضامن في ملف شمال مالي، تجد نفسها اليوم في قفص الاتهام، متهمةً بـ”تأجيج الفوضى” التي كانت تسعى سابقًا لاحتوائها.
حادثة الطائرة: خطأ تقني أم مواجهة محسوبة؟
قلب الأزمة يدور حول حادث إسقاط طائرة مسيرة تابعة للجيش المالي، حيث تقول الجزائر إنها اخترقت أجواءها بعمق 1.6 كيلومتر، بينما تقول باماكو إن الطائرة لم تغادر أبدًا الأجواء المالية، بل أسقطت على بعد 9.5 كلم من الحدود داخل التراب المالي، وفق بيانات الملاحة الجوية.
السؤال الذي يطرح نفسه: إذا كانت الطائرة فعلاً داخل المجال المالي، فكيف سقطت؟ ومن أسقطها؟ وإذا كانت الرواية الجزائرية صحيحة، لماذا لم تقدم سلطات الجزائر أي بيانات فنية تثبت اختراق الأجواء رغم مرور أكثر من 72 ساعة على الحادث؟ وهل يعتبر هذا التأخير بمثابة “إقرار ضمني” كما تقول مالي، أم أن الأمر يدخل ضمن اعتبارات استخباراتية وأمنية لا يمكن الكشف عنها إعلاميًا؟
ما وراء التصعيد: هل فشلت الجزائر في كسب ود الحكومات العسكرية الجديدة؟
منذ تولي السلطات العسكرية الحكم في مالي، النيجر وبوركينا فاسو، حاولت الجزائر الحفاظ على قنوات التواصل، بل وعرضت الوساطة ودعمت حوارات إقليمية لتجنيب المنطقة السيناريوهات الدموية. لكنها في المقابل، رفضت الانقلاب على الشرعية الديمقراطية، وأصرت على حماية اتفاق الجزائر الموقع عام 2015 بين الحكومة المالية السابقة والجماعات المسلحة في الشمال.
اليوم، يبدو أن هذه الحكومات العسكرية تنظر إلى الجزائر كطرف غير محايد، بل كمصدر تهديد مباشر. فهل تدفع الجزائر ثمن تمسكها بالاتفاقيات الدولية، أم أن التحول في استراتيجيات الساحل – بعد انفتاحه أكثر على روسيا وانغلاقه تجاه فرنسا والغرب – جعل من الجزائر هدفًا طبيعيًا للاتهامات؟
الاتهام بالإرهاب: عبور للخط الأحمر؟
أخطر ما جاء في البيان الثلاثي هو الاتهام المباشر للجزائر بـ”رعاية الإرهاب الدولي”. هذا التعبير يُعتبر بمثابة “خط أحمر” دبلوماسي، ليس فقط لأنه يطعن في السيادة الأمنية الجزائرية، بل لأنه يصب مباشرة في جوهر معركتها الداخلية ضد الجماعات المسلحة منذ التسعينيات.
هذا يطرح سؤالًا جوهريًا: هل الهدف من التصعيد هو عزل الجزائر إقليميًا؟ وهل يمكن أن نشهد تقاربًا ثلاثيًا (مالي-نيجر-بوركينا) مع قوى إقليمية أخرى كروسيا على حساب الجزائر؟ أو أن الأمر مجرد ورقة ضغط ظرفية لابتزاز موقف سياسي أو أمني من الجزائر؟
ختامًا: هل نحن أمام بداية تفكك المنظومة الأمنية في الساحل؟
في ظل هذه المعطيات، يبدو أن المنطقة مقبلة على مرحلة جديدة من الصدامات الدبلوماسية، التي قد تتجاوز خلافات الأجواء والطائرات إلى ملفات أعقد: محاربة الإرهاب، تقاسم النفوذ، مستقبل القوات الإقليمية المشتركة، وربما إعادة رسم خرائط التحالفات.
السؤال الذي يجب طرحه الآن: هل تملك الجزائر الأدوات الدبلوماسية والميدانية لتجاوز هذه الأزمة، أم أن “حادثة الطائرة” كانت القشة التي ستُقصم ظهر علاقتها بدول الساحل العسكريّة؟
وما هو مصير “اتفاق الجزائر” الذي قد يصبح أول ضحية سياسية لهذا التصعيد غير المسبوق؟