أوريد .. بلاد المغرب بين الأهواء والأنواء

0
304

 اختار الصديق حسن بنعدي، وهو أستاذ للفلسفة، عنوان «بلاد المغرب بين الأنواء والمد» باللغة الفرنسية ترجمة لكتاب نفيس كتبه السياسي والمفكر المغربي عبد الله إبراهيم، عنوانه الأصلي بالعربية «صمود وسط الإعصار» في الستينات من القرن الماضي، ونشره في بداية السبعينيات. والكتاب يكاد أن يكون مجهولا في المغرب إلاّ في دوائر ضيقة، للعزلة التي ضُربت على صاحبه. والمؤلَّف غير معروف خارجه بكل تأكيد، ويكتفي بعض المغاربة لمن كانوا يُلمحون إليه، وإلى صمود صاحبه وسط أعاصير السياسة. بيد أن متن الكتاب شيء آخر، وهو صمود بلاد المغرب أمام ما اعتراها من أنواء وأعاصير، لثلاثة آلاف من السنين، منذ أن حلّ بها الفنيقيون، وامتزجوا والأهالي في غير استعلاء، ثم لما احتلها الرومان عسكريا واستغلوها اقتصاديا، وبعدئذ نشر بها العرب الإسلام، وتشربه سكان المغرب وانطبعوا بثقافته وخضعوا لنظام الحكم الساري في دار الإسلام، لتعرف المنطقة موجة رابعة، ما تزال تجثم عليها مذ حلت جحافل الجنود الفرنسيين، مرفأ سيدي فرج سنة 1830.

بلاد المغرب بدءا، ليست هي بلاد المغرب الأقصى، كما قد يتبادر إلى الذهن، ولكنها الفضاء الفسيح الممتد من برقة إلى ضفاف الأطلسي، ويستنكف صاحب الكتاب تعريف هذا الفضاء، إذ الهند هي الهند، والصين هي الصين، وبلاد المغرب هي بلاد المغرب.

لا بأس في أن نُعرّج على صاحبه، فهو من الرعيل الأول من الوطنيين المغاربة، وهو من مؤسسي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الفرع اليساري، الذي انشق عن حزب الاستقلال. وهو أول رئيس حكومة سنة 1959، باسم الاتحاد الوطني وتمت الإطاحة به، فيما يُعرّفه بعض المؤرخين بانقلاب أبيض.

استثار عبد الله وحكومته غيظ العناصر القريبة من الأوساط الاستعمارية النافذة، خاصة أن حرب التحرير الجزائرية كانت على أشدها، وكان عبد الله إبراهيم قد جعل وكده المنافحة عن حرب التحرير الجزائري في المحافل الدولية. كان عبد الله إبراهيم وطنيا حين كانت الوطنية سبيلا للسجن والنفي، وكان مغاربيا، رغم الغبش الذي لف هذا الحلم الذي استحث الرواد أثناء حركات التحرير وتحول إلى نقع يحجب الرؤية، وكان قوميا حين اقترنت القومية بمشروع وهَبَّة.

وجد ضالته بعد إن أزيح عن الشأن العام، في التفكير والكتابة والتدريس، وقد استعصى العمل السياسي وفق الرؤى التي حملها الماهدون من حركات التحرير، إلى أن لقي حتفه سنة 2005. يُذكّر مساره بنحو الأنحاء بمسار صالح بن يوسف في تونس. لا يحصر عبد الله إبراهيم نفسه في انتماء قطري، حين يُشرّح أعطاب بلاد المغرب في نَفَس خلدوني. يبدأ من ملاحظة لافتة ومؤلمة، وهي أن بلاد المغرب غنية وساكنتها فقيرة. ولهذه المفارقة أسباب عميقة. لم تحُلَّ بلاد المغرب قضايا جوهرية أربع، وهي مسألة الحكم، والتوزيع العادل للأراضي، ومشكل اللغة، وأخيرا قضية الوحدة.

بقي الحكم متأرجحا بين نموذجين، نموذج محلي ينعته بالديمفوضية، وهي كلمة منحوتة من كلمة ديموس الإغريقية أي الشعب، وفوضية، يعني مصطلح الديموفوضية أساسا انعدام الحكم الفردي، إذ كان الحكم جماعيا في إطار ما يعرف بالجْماعة، ولكن هذه النواة الديمقراطية كانت تصطدم ببنية إقطاعية، وكانت تتطور لتصبح، كما في تحليل ابن خلدون، أسرة حاكمة، وتبلغ أحيانا المستوى الإمبراطوري، ثم ما يلبث أن يدب فيها الوهن، والعِلة، هي أن الحكم لم يكن قوميا قط (كذا).

أما مشكلة توزيع الأرض، فقد كانت مستحوذَة دوما من إقطاعيين، أو معمرين، منذ الرومان. أما اللغة، فقد كان هناك تمايز ما بين النخبة التي تستعمل لغة الأجنبي، منذ الرومان، والشعب الذي حافظ على لغته الأصلية. وهو وضع ثقافي لا يهيئ إلى شعور قومي، أو وعي تاريخي، إذ لا تضطلع الثقافة، في ظل الانشطار بين النخبة والشعب، بدور المحفز، وتصبح الثقافة النخبوية «عاملا أساسيا في استئصال جذور الثقافة المغربية، وأداة التسلط الطبقي في المجتمع، وسلاحا ماضيا من أسلحة الاستعمار الجديد». لا يرى عبد الله إبراهيم في العربية لغة نخبوية، لأنها ترتكز على بنية عميقة منذ الفينيقيين، ولذلك تعرب المغاربة أو الأمازيغ في يسر.

ولذلك يقول: «وللعربية جذور عميقة في وجدان المغاربة الديني وضميرهم الأخلاقي، وارتباطاتهم التاريخية عبر التاريخ، فهي لذلك تمثل لحد الساعة أكثر من لغة بالنسبة إليهم، لأنها جزء من هويتهم نفسها كشعب». المثبطات البنيوية لم تطمر العبقرية المغربية، ولا الارتباط الوجداني الثاوي في لا وعيهم. صمدت وسط هذه الأعاصير السياسية والمعوقات الاجتماعية والثقافية البنيوية. لكن الواقع لا يرتفع، ولذلك يقول عبد الله إبراهيم «إن التفكير أسريا أو قطريا، لا مغربيا انحراف سياسي خطير في تاريخنا.

تشتت وحدة المغرب الكبير كما تشتت الوحدة داخل كل جزء من أجزائه باستمرار، ما جعل ماضينا كله مضطربا، وغير مفهوم باعتباره ماضيا قوميا». ثم لينتهي إلى نتيجة مفجعة، وهي موطن الداء: «أقطار المغرب تجد نفسها في مأزق مملوء قعره بالحروب المفجعة، الواقع منها، أو الذي يقع، وبالمنافسات البليدة والعراقيل المُنْصبَّة في طريق أي سياسة للنماء معقولة، وكل مجهود جدي بالمجتمع المغربي بشكل سريع».

لا يُلَخّص محتوى كتاب فكري عميق في مقال، وغايتي في هذه الإشارة التذكير بما يحمله الكتاب من تحليل ما يزال يحتفظ براهنيته، وبرسالة في ظرفية صعبة ودقيقة، تذكر بالمشترك، وبالرهان الذي يجب كسبه. ولعل ترجمة العمل إلى الفرنسية من لدن رجل علم وفعل، عرف الكاتب عن كثب ولازمه، أن تُسهم في التعريف بمحتواه. وأملي أن تتاح قراءة هذا الكتاب ليس في المغرب الأقصى وحده، بل أن تنتظم لقاءات في تلمسان والجزائر وعنابة والقسنطينة وبنزرت وسوسة وطرابلس وبنغازي ونواكشط وبوتلمين وغيرها، كي نتذكر ما يجمعنا في الوقت الذي طغى فيه ما يفرقنا. ويشفع لصاحب الكتاب ليس عمق فكره وحده، بل انخراطه في استقلال الجزائر، ودفاعه عنها حينما كانت ترزح تحت احتلال بغيض. لم يكن لعبد الله إبراهيم انتماء، في هذا الكتاب إلا للوحدة المغاربية، أو ما يسميه بالبعد القومي الذي ظل صامدا رغم الأعاصير. فهل تُراه يصمد أمام الأعاصير الهوجاء التي تهب عليه في الآونة الحالية؟

 

 

 

 

https://www.alquds.co.uk/بلاد-المغرب-بين-الأهواء-والأنواء/?fbclid=IwAR0trQMUKfM3jYZmT1Xz6VUkFugBEvhubHxxKzva9-V7e1B8anRTRDgXYUE