أوريد : كنت والياً وليس وليّاً… حين يتحول التاريخ إلى سلاح سياسي وثقافي

0
165

بين السياسي والمؤرخ: تاريخ الأمة كأداة لفهم الحاضر واستشراف المستقبل

في محاضرة استمرت أكثر من ساعة، قدّم الدكتور حسن أوريد، المؤرخ والناطق الرسمي السابق باسم القصر الملكي، قراءة متعمقة حول العلاقة بين السياسي والتاريخ، موضحًا أن التاريخ ليس مجرد سرد للأحداث، بل أداة معرفية وثقافية تتيح للأمم فهم حاضرها وتخطيط مستقبلها. وعلى الرغم من البداية الشخصية التي استهل بها أوريد حديثه حول مساره كوالي على مكناس، فإن جوهر المحاضرة كان عن العلاقة الدقيقة بين السلطة والمعرفة، وعن كيف يمكن للتاريخ أن يصبح أداة مؤثرة في السياسة والدبلوماسية.

التاريخ: بين الواقع الرسمي والتجربة الشخصية

افتتح أوريد محاضرته بتصحيح بعض المفاهيم الخاطئة حول سيرته الذاتية، مؤكدًا أنه لم يكن ولياً على مكناس، ولم يُجري تدريبات مع وزارة الداخلية، ولم يلتقِ بالمرحوم عبد السلام ياسين كما أشيع. هذا التأكيد على الدقة الشخصية يبرز نقطة أساسية: التاريخ يتطلب الدقة في قراءة السياقات قبل أي استدعاء للأحداث، سواء كانت هذه الأحداث رسمية أم شخصية. أوريد هنا يعيد التأكيد على أن التاريخ ليس ملكاً لأحد، ولا يمكن لأي سلطة أن تتحكم فيه بالكامل، مهما كانت قوتها.




تجربته الشخصية في قراءة التاريخ، بعد توليه منصب رسمي، كانت منعطفًا في حياته: بدأ بالاطلاع على التراث ومنهجيات البحث التاريخي، ما أتاح له إدراك أن التاريخ ليس مجرد حفظ للأحداث، بل تحليل للزيف والحقائق الخفية. وهذا التأمل الشخصي يقود إلى استنتاج مهم: التاريخ كأداة تحليلية يمكن أن يفتح أفقًا لفهم الحاضر، وليس مجرد تسجيل للماضي.

عودة التاريخ في السياسة العالمية

أوريد يربط اهتمامه بالتاريخ بظاهرة عالمية أوسع: عودة التاريخ كأداة لتفسير الواقع السياسي ودعم شرعية الدول. فهو يشير إلى الاحتفالات التاريخية في روسيا بمناسبة ذكرى الانتصار السوفياتي في سانت بطرسبرغ، أو الاحتفالات الصينية بمجازر الحرب اليابانية، أو تحويل آيا صوفيا إلى مسجد في تركيا. هذه الأمثلة توضح كيف أن الدول توظف التاريخ ليس فقط لتأكيد هويتها، بل لتحديد مواقعها الاستراتيجية في السياسة الدولية.

من هنا، يظهر التاريخ كأداة مزدوجة: يمكن أن يكون مصدر شرعية لتفسير الحاضر، ويمكن أن يكون أداة صراع بين الدول. النزاعات بين تركيا واليونان حول الهوية التاريخية لآسيا الصغرى، أو بين روسيا وأوكرانيا، أو بين المغرب والجزائر، تؤكد أن التاريخ لم يعد مجرد خلفية، بل أصبح ساحة تنافس استراتيجي.

التاريخ كثقافة عامة ودمقراطية تاريخية

من أهم الملاحظات التي يقدمها أوريد، أن التاريخ لم يعد حكرًا على الجامعات والمؤسسات الأكاديمية. ففي الماضي، كانت الدراسات التاريخية محدودة ضمن أروقة الجامعة، ولم تؤثر إلا نادرًا في السياسات العامة. أما اليوم، فالتاريخ أصبح شأناً شعبياً، يتفاعل معه المواطنون، الإعلام، الأدب، وحتى البودكاست، ليصبح عنصرًا في صياغة الوعي العام.

هنا يظهر ما يمكن تسميته بـدمقراطية التاريخ: حيث يمكن للمواطنين والمثقفين والكتاب وحتى الهواة أن يسهموا في نقد السرديات الرسمية. أوريد يشير إلى أمثلة دولية واضحة: المؤرخون الجدد في إسرائيل الذين تحدوا الرواية الرسمية بشأن الفلسطينيين، أو الأدب التركي المعاصر الذي يسلط الضوء على مجازر الأرمن، أو الشهادات التي تقدمها شخصيات غير مؤرخين في الجزائر والمغرب حول الأحداث الوطنية والتاريخية. كل هذه الأمثلة تؤكد أن التاريخ ليس أداة حصرية للسلطة، بل ميدان للتفاعل والمساءلة.

السياسة والتاريخ: علاقة جدلية

أوريد يوضح بجلاء أن العلاقة بين السياسي والتاريخ هي علاقة جدلية: السياسي يحتاج التاريخ لتبرير خياراته وصياغة شرعيته، لكنه لا يستطيع ترويضه بالكامل. التاريخ يمتلك قدرة على إنتاج روايات موازية أو معارضة للرواية الرسمية، كما يظهر في الحراك التاريخي داخل الديمقراطيات أو في سياق النزاعات الوطنية.

المثال المغربي يجسد ذلك: هناك دائماً فاعلون مجتمعيون ينقدون الرواية الرسمية للتاريخ الوطني، ويثيرون جدلاً حول بطولات الشخصيات التاريخية أو دقة الأحداث الموثقة، مما يدل على أن التاريخ أصبح أداة لتشكيل النقاش العام والمساءلة السياسية، وليس مجرد طابع رسمي يُحتفى به في المناسبات.

الدولة-الحضارة: التاريخ كعمود فقري للهوية

أحد أهم المفاهيم التي يطرحها أوريد هو مفهوم الدولة الحضارة، الذي يختلف عن مفهوم الدولة-الأمة التقليدي. الصين وروسيا وفرنسا، بحسب أوريد، لم تعد تعتبر نفسها مجرد حدود جغرافية، بل حضارات تمتد جذورها في التاريخ وتستعيده لتبرير وجودها وهويتها الثقافية. هذا التوجه يفسر جزئيًا اهتمام الدول بالاحتفال بالذكريات التاريخية الكبرى، ليس فقط كطقوس رمزية، بل كأدوات لترسيخ الهوية الوطنية وتوجيه مستقبلها.

التاريخ كأداة توجيه استراتيجي

التاريخ ليس فقط أداة ثقافية، بل يمكن أن يكون خارطة طريق استراتيجية. الأمثلة متعددة: الثورة البولشفية في روسيا، الثورة الإيرانية، المسيرة الخضراء في المغرب، الثورة الجزائرية… كل هذه الأحداث تُستعاد وتُوظف لتوجيه السياسة الحالية، سواء لتعزيز شرعية السلطة، أو لتحديد هويات ومواقف الدول تجاه الخارج.

إضافة إلى ذلك، يلفت أوريد إلى أن التاريخ قد يُستخدم في التعتيم على أحداث معينة، وهو جانب سلبي لتوظيف التاريخ. فالتاريخ الرسمي قد يتجاهل فصولاً مظلمة أو شخصيات مثيرة للجدل، بينما تسعى الروايات البديلة لتقديم صورة أكثر اكتمالاً، كما في الحوادث المتعلقة بالعثمانيين في تركيا أو تطهير الأرمن.

الخلاصة: المغرب بين التاريخ والهوية

محاضرة أوريد تكشف عن معادلة حاسمة: السياسة تحتاج التاريخ، لكن التاريخ لا يحتاج السياسة ليكون فاعلاً. المغرب، وفق هذا التحليل، أمام فرصة استراتيجية لإعادة توظيف تاريخ الأمة ليس كاحتفال رمزي، بل كأداة لتشكيل تصور مستقبلي واعٍ، يوازن بين هويته الحضارية ومواجهة التحديات العالمية. التفاعل الشعبي مع التاريخ، من خلال الإعلام والأدب والمجتمع المدني، يمثل رافعة لإرساء وعي تاريخي شامل يتيح للمغرب تعزيز مكانته الثقافية والدبلوماسية في المنطقة والعالم.