أسهمت التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عرفها المغرب منذ نهاية التسعينات في ظهور نخبة تكنوقراطية جديدة أصبح تموضعها يحتل حيزًا أساسيًّا في الهرم السياسي المغربي، وأصبح نفوذها يتزايد بشكل مقلق مقابل تراجع السياسيين.
هذه الظاهرة انطلقت منذ عهد الملك الراحل، الحسن الثاني، الذي كان اعتماده على التكنوقراط في تدبير الشأن السياسي منهجًا في الحكم ونابعًا من اختيار استراتيجي معاد للديمقراطية وللسياسة، وقد ارتبط في البداية بمرحلة الفراغ السياسي التي عرفها المغرب منذ الستينات من جرَّاء الصراع الذي اندلع بين الملكية وأحزاب الحركة الوطنية، وارتبط فيما بعد برغبة الدولة في استبعاد النخب الحزبية من تدبير الشأن السياسي وتقليص دورها.
في خضم ذلك، فقد جرت العادة، في المغرب منذ الاستقلال، أن تسند حقائب وزارية إلى تكنوقراط باسم الأحزاب القريبة من الإدارة، فيُصبَغون ويُلونون باسم الأحزاب التي تقبل بذلك، وهذا ما دأبت عليه كل الحكومات. وغالبا ما يتولّى هؤلاء الوزراء حقائب جد مهمّة، خصوصا المتعلقة بالاقتصاد والمالية والتجارة والاستثمار.
في السياق المغربي، يحيل مفهوم التكنوقراط إلى النخب الجاهزة من المهندسين ورجال الأعمال والمقاولين والمديرين وكبار موظفي الدولة… تجمع بينهم قواسم مشتركة وسمات خاصة من كفاءة وقيادة وانضباط ورؤية واقعية وأخرى مرتبطة بعامل الخبرة والتدرج في هيئات الدولة، فضلًا عن التوفر على رأسمال معرفي أو اقتصادي أو اجتماعي يعتبر في أغلب الأحيان امتدادًا للنخبة التقليدية ويضاف إليه اللون السياسي.
بناء على ذلك، يمكن أن نستنتج أن علاقة التكنوقراط بالسياسة في السياق المغربي هي علاقة ارتباط وتأثير متبادل، وفي تفاعل مستمر حيث إن السياسي مرتبط دائمًا بالتكنوقراطي، وهذا الأخير يتأثر بالسياسي وفق سيرورة من التفاعل داخل المنظومة السياسية والحزبية.
وقد تضمنت التشكيلة الحكومية، أسماء جديدة على الساحة السياسية المغربية وجلها من التكنوقراط، وتم اختيارها بناء على توفرها على شهادات عليا، علما أن جل هؤلاء حصلوا على شهاداتهم خارج المغرب.
حيث من الملاحظ أن وجود التكنوقراط في الحقل السياسي المغربي أصبح عرفًا سياسيًّا وفي تزايد مستمر الذي لطالما عرف وجود شخصيات وزارية وأطر إدارية تكنوقراطية أو أحزاب بزعامات ذات خلفية تكنوقراطية، تستمد شرعيتها من قربها من السلطة من جهة، ومن الخبرة والانضباط والكفاءات التدبيرية التي تؤهلها أكثر من غيرها لتسيير المجتمع وفق مقاربة تدبيرية واقعية، من جهة ثانية.
بالتالي، تُسند الحقائب الوزارية إلى الوزراء السياسيين ذات الطابع الخدماتي والاجتماعي والتضامني، وزارات المشكلات إذا صحّ التعبير، لكن ما يميز حكومة أخنوش أن التكنوقراط استولوا على أغلب الحقائب المهمة، فقد عين ثلاثة وزراء من أعضاء اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، فقد أسندت وزارة التعليم والرياضة لرئيس اللجنة، وزير الداخلية السابق شكيب بنموسى، بينما أسند التعليم العالي والبحث العلمي لعضو اللجنة عبد اللطيف ميراوي، وأسندت حقيبة الانتقال الطاقي والتنمية المستدامة لعضو اللجنة ليلى بنعلي، مع إلحاق الأول بحزب التجمع الوطني للأحرار والثانية بحزب الأصالة والمعاصرة، وهي ملفاتٌ يحرص القصر على متابعتها مباشرة.
وحسب مصادر من حزب الاستقلال، فقد أدى إقصاء وجوه معروفة بنشاطها السياسي والحزبي وناضلت لمدة سنوات طويلة داخل هذا الحزب، إلى بروز موجة غضب عارمة داخل صفوفه.
ومن هنا، يقتصر دور حزب “التجمع الوطني للأحرار” على تنفيذ رؤى وبرامج صيغت خارجه، ما يحجّم فعله السياسي، وكأنه حزب تكنوقراط، وهو كذلك. لأننا عندما نلاحظ تركيبة حزب رئيس الحكومة أخنوش نجد أن جل وزرائه إن لم يكن الكل تم تعيينهم مؤخرا على مناصبهم الوزارية، ولإضفاء الطابع السياسي ألحقوا بالأحرار.
هو كذلك، لأننا عندما نلاحظ تركيبتها نجد أن كل وزراء السيادة حافظوا على مناصبهم الوزارية، وزراء الداخلية والخارجية والشؤون الإسلامية وإدارة الدفاع الوطني والأمانة العامة للحكومة، حيث لم يحصل أي تجديد. أما وزارة العدل، فمنذ فصل النيابة العامة عنها في عهد حكومة بنكيران، تقلص دورها بشكل كبير، وأصبحت ذات طابع تقني تدبيري، وقد أسندت للأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة، بينما أسندت وزارة التجهيز لحزب الاستقلال في شخص أمينه العام، وهي تعتبر معقلا لهذا الحزب منذ أمد بعيد. كما لم يحدث أي تغيير حقيقي في وزارات أخرى، حيث تولاها أناسٌ من داخلها، مثل وزارة الفلاحة التي آلت إلى الكاتب العام للوزارة، بعدما تولاها رئيس الحكومة الحالي منذ 2007.
لكن اليوم بالنظر لحجم التكنوقراط داخل التشكيلة الحكومية (أزيد من سبعة وزراء)، والدعوة التي وجهها الملك المفدى محمد السادس حفظه لرئيس الحكومة في خطاب العرش الأخير لتعزيز الحكومة بالكفاءات في مختلف المناصب، عن طريق القيام بتعديل حكومي قد يفسح المجال لدخول عدد إضافي من الوزراء التكنوقراط أو هيمنتهم على تشكيلة الحكومة؛ الأمر الذي يدفع للتساؤل: هل هذه الخطوة ارتداد جديد نحو أسلوب “الحكم غير المسيَّس” الذي انتهى نظريًّا مع الثورات العربية ودستور 2011 أم أنها فقط مجرد مرحلة مؤقتة تتطلب درجات عليا من الخبرة والكفاءة في تنفيذ الجيل الجديد من المشاريع التي ستقبل عليها المملكة إلى حين تحسن المؤشرات الاقتصادية والخروج من أزمة التنمية، نظرًا لكون مواكبة النخب الحزبية لم تكن في المستوى، وخاصة بعد موجة الاحتجاجات التي اندلعت في عدة مناطق من المغرب وأدخلت البلاد في أزمة سياسية وأخرى ذات صلة بمجموعة من القطاعات الاجتماعية؟.
وقال أخنوش في كلمته أمام أعضاء البرلمان بغرفتيه (النواب والمستشارين) إن حكومته حددت 10 التزامات كبرى تفعيلا لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة وتيسيرا لتتبع وتقييم الحصيلة الحكومية.
وحسب “أخنوش”، فإن أبرز هذه الالتزامات تتمثل في توفير مليون فرصة عمل خلال الخمس سنوات المقبلة.
وتعهد أخنوش إلى جانب ذلك بالعمل على رفع نسبة النساء العاملات إلى أكثر من 30 بالمئة بدلا من 20 بالمئة حاليا.(نسبة النساء العاملات من إجمال العمال بالبلاد).
وتعهد أخنوش كذلك بالعمل على تحسين المنظومة التربوية (قطاع التعليم) بهدف تصنيف المغرب ضمن أحسن 60 دولة عالميا عوض المراتب المتأخرة في جل المؤشرات الدولية ذات الصلة.
ويرى المحلل السياسي عمر المرابط، أن الحديث عن البرنامج الحكومي، والذي يختزل في كلمة واحدة، تطبيق “النموذج التنموي الجديد” للمغرب وتنزيله، وهو الصادر عن اللجنة الخاصة التي أحدثها الملك محمد السادس، خارج الإطار الحكومي، يوم 12 ديسمبر/ كانون الأول 2019، والتي قدّمت تقريرها الشامل يوم 25 مايو/ أيار الماضي، ليصبح التقرير وتنزيله خريطة الطريق التي وجب أن يتبعها الجميع، وهذا ما ورد على لسان رئيس الحكومة عزيز أخنوش في تصريح تلفزي بعد تشكيل الحكومة، ما يطرح سؤالا عن جدوى برامج الأحزاب السياسية والتنافس في صياغتها وطرحها أمام الناخب المغربي للاختيار، فالبرنامج محدَّد سلفا والاختيارات معروفة مسبقا. ومن هنا، يقتصر دور الحكومة على تنفيذ رؤى وبرامج صيغت خارجها، ما يحجّم فعلها السياسي، وكأنها حكومة تكنوقراط، وهي كذلك.
تستمد كلمة “التكنوقراط” أصلها من اللغة اليونانية؛ حيث تحيل إلى الحُكم الفني؛ أي الذي يرتبط بمجموعة من الأشخاص المتخصصين في مجال ما، مثل: الهندسة والتعليم والاقتصاد والفلاحة والطب والمحاماة وغيرها، عن طريق تأسيس حكومات يكون وزراؤها من المُختصين؛ فتسمى حكومة تكنوقراطية أو حكومة الكفاءات.
كما تعرَّف التكنوقراطية بأنها مذهب سياسي يمنح أهل الخبرة والاختصاص غير المنتخبين الذين يُفترض فيهم وضع مصلحة البلاد فوق مصلحة أي حزب أو جهة سياسية نفوذًا أكبر على حساب السياسيين.
بالتالي، فهي شكل من أشكال الحكومات التي يتم اختيار أعضائها استنادًا إلى خبرتهم وكفاءتهم التقنية، وبذلك تكون حكومة التكنوقراط مختلفة عن الحكومة السياسية؛ فهذه الأخيرة تستمد شرعيتها من الإرادة الشعبية وما تفرزه صناديق الاقتراع بناء على اختيارات حزبية ومفاوضات سياسية، في مقابل شرعية الكفاءة والإنجاز.
ويبقى السؤال، كيف سيمكن لأخنوش ترجمة وعوده مع وجود “نموذج تنموي كبير” من اقتراح الملك المفدى حفظه الله، و أن هذا “النموذج” “حسم الاختيارات الكبرى”، ويجعل من الانتخابات مجرد “آلية لإفراز نخب سياسية جديدة قادرة على تفعيله”.و “يفرض على الأحزاب تبني برامج متشابهة…”.
وفي ظل نظام ملكي يكون فيه للملك القول الفصل في القرارات الرئيسية، ستكون المهمة الرئيسية للحكومة الجديدة تنفيذ نموذج تنموي وضعه القصر الملكي يستهدف للحد من عدم المساواة وخفض معدلات الفقر وتعزيز فرص النمو.
وللحكومة الخامسة على التوالي، بما يجعله أقدم وزير في الحكومة الحالية، يتبوأ أحمد التوفيق منصب وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، وهو بدون لون سياسي، كما حصل محمد الحجوي، على منصب الأمين العام للحكومة للمرة الثانية على التوالي.
ولم تخلق أيّ مفاجأة بحفاظ عبد اللطيف لوديي على منصب وزير منتدب لدى رئيس الحكومة مكلف بإدارة الدفاع الوطني، إذ حافظ على منصبه الذي تبوأه عام 2010، أي منذ عهد حكومة عباس الفاسي، كما حلّ نور الدين بوطيب، الكاتب العام لوزارة الداخلية، في منصب وزير منتدب لدى وزير الداخلية، مكان الشرقي الضريس، مدير الأمن الوطني السابق.
وارتبط اسم حزب “التجمع الوطني للأحرار”، قائد ائتلافٌ حكومي من ثلاثة أحزاب لأول مرة في تاريخه، بزعيمه التاريخي أحمد عصمان، المتحدر من مدينة وجدة بشرق المملكة. وأسس عصمان الحزب الأزرق أو حزب “الحمامة” في 1978، جمع فيه عدد من المستقلين الذين وصلوا إلى البرلمان عقب انتخابات 1977.
ويعتبر محللون أن هذا التأسيس جاء بإيعاز من السلطة وقتها لضرب اليسار المشاكس، الذي كان في مجمله يرفض المشاركة في اللعبة السياسية، ويشن ضدها انتقادات لاذعة، متهما العملية الانتخابية باستمرار بعدم النزاهة والتزوير. علما أن عصمان كانت تربطه علاقة مصاهرة مع الملك الراحل الحسن الثاني.
واستمر وجود أحمد عصمان على رأس الحزب لمدة 29 عاما، وهي مدة تقلد فيها ابن وجدة عدة مناصب حكومية ودبلوماسية، كان أبرزها قيادته للحكومة من 1972 حتى 1979، وهي أطول مدة قضاها وزير مغربي على رأس الحكومة في المملكة. وخلفه في تسيير الحزب الوزير السابق مصطفى المنصوري في 2007، قبل أن يطيح به وزير الخارجية السابق صلاح الدين مزوار في 2010. وفي أكتوبر 2016 تم انتخاب عزيز أخنوش زعيما جديدا للحزب.
ظل “التجمع الوطني للأحرار” يصنف لسنوات بأنه من الأحزاب “الإدارية” أو “الصفراء” من طرف المعارضة اليسارية خاصة حتى نهاية التسعينات مع تشكيل حكومة التناوب بقيادة حزب يساري، الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، لأول مرة في المغرب، في إطار نوع من التوافق بين ما كان يعرف بـ”أحزاب الكتلة” والملك الراحل الحسن الثاني، وتم إدماج “الأحرار” كحزب وسطي في هذه الحكومة في إطار نوع من التصالح أولا بين اليسار والقصر وثانيا بين اليسار وما كان يعرف بالأحزاب الإدارية.
ويرفض حزب “التجمع الوطني للأحرار” تقديمه على أنه حزب ليبيرالي، كما جاء في تصريح للمتحدث باسمه شفيق الودغيري، ويفضل تصنيفه كحزب “اجتماعي ديمقراطي”، له رؤية مبنية على “المساواة، المسؤولية والتماسك الاجتماعي”، وفق ما جاء في الخطوط الكبرى لبرنامج السياسي، الذي ركز فيه على “الشغل فالشغل ثم الشغل”، “الوصفة” الناجعة، بالنسبة له، لتحقيق “التماسك الاجتماعي”.
https://www.maghrebalaan.com/بوانو-برنامج-حكومة-أخنوش-عبارة-عن-خط/