استراتيجية التأشيرات الأوروبية: بين جاذبية الكفاءات وهواجس الأمن والهجرة

0
165
صورة: أ.ف.ب

أعلنت المفوضية الأوروبية عن فتح باب النقاش العمومي حول استراتيجية جديدة لسياسة التأشيرات، تسعى من خلالها إلى بلورة تصور “حديث وملائم للمستقبل”، يوازن ـ على حد تعبيرها ـ بين حاجيات النمو الاقتصادي وتعزيز القدرة التنافسية من جهة، وضبط المخاطر الأمنية والهجرة غير النظامية من جهة أخرى.

غير أن قراءة متأنية لهذا الإعلان تكشف عن مفارقات عميقة في الخطاب الأوروبي: فمن جهة، يرفع الاتحاد لواء محاربة الهجرة غير النظامية ويشدّد في مراقبة حدوده، ومن جهة أخرى، يعترف بحاجة ملحّة لاستقطاب اليد العاملة الماهرة والكفاءات الأجنبية لتعويض النقص في بعض القطاعات الحيوية كالطب والهندسة والبحث العلمي. هذا التوتر بين منطق “الأمن” ومنطق “الاقتصاد” ليس جديداً، لكنه يزداد وضوحاً في ظل شيخوخة مجتمعات أوروبا وتراجع نسب المواليد، وهو ما وثقته تقارير “يوروستات” الأخيرة التي حذرت من فجوة ديموغرافية تهدد سوق العمل الأوروبي.

ازدواجية الخطاب الأوروبي

يؤكد الخبير في قضايا الهجرة خالد مونة أنّ هذه السياسة تكشف عن ازدواجية أوروبية مزمنة: ففي الوقت الذي يُقدَّم فيه خطاب رسمي وإعلامي صارم ضد الهجرة، تعترف مؤسسات الاتحاد بأن المهاجرين يشكلون عنصراً أساسياً في الدورة الاقتصادية. ويكفي التذكير بأن حكومة جورجيا ميلوني في إيطاليا ـ رغم خلفيتها اليمينية المناهضة للهجرة ـ شهدت أكبر تسوية لأوضاع المهاجرين في تاريخ البلاد، ما يعكس الطابع البراغماتي لسياسات الهجرة في مواجهة متطلبات السوق.

البعد المغربي: مكاسب وخسائر

بالنسبة للمغرب، يبدو المشهد أكثر تعقيداً. فمن جهة، يتيح فتح قنوات للهجرة النظامية طويلة الأمد فرصاً مهمة أمام الكفاءات المغربية، خصوصاً في المجالات الطبية والعلمية، بما يساهم في انخراط هذه الفئة في ديناميات الابتكار الأوروبية. ومن جهة أخرى، يحمل ذلك مخاطر جدّية على التوازنات الداخلية، إذ تشير معطيات المندوبية السامية للتخطيط إلى تراجع في نسب الشباب والمواليد، ما يطرح سؤالاً عن مستقبل سوق الشغل المحلي في حال تسارع نزيف الأدمغة.

صحيح أن المغرب اتخذ بعض المبادرات كزيادة عدد مقاعد تكوين الأطباء وتقليص سنوات الدراسة، لكن في باقي القطاعات لا يزال غياب استراتيجية وطنية لتثمين الكفاءات يترك الباب مفتوحاً أمام هجرة واسعة. هنا يبرز التناقض بين “حق الأفراد في التنقل” و”حاجة الدولة إلى حماية رصيدها البشري”، وهو تناقض يعكس في جوهره هشاشة السياسات العمومية المغربية تجاه هجرة الكفاءات.

التكنولوجيا والرقابة: تشديد أم تحديث؟

على صعيد آخر، يرتبط الإعلان الأوروبي باستعداد الاتحاد لتطبيق نظام رقمي جديد ابتداء من أكتوبر المقبل، يقوم على جمع بيانات بيومترية مفصلة (صور، بصمات، ومعطيات جواز السفر)، في خطوة تبررها بروكسيل بالرغبة في تقليل الانتظار وتسهيل الإجراءات. غير أن المتتبعين يرون أن هذا النظام يعكس نزعة متزايدة نحو الرقابة والضبط، في سياق أوروبي يتسم بتصاعد التيارات الشعبوية وضغط الهواجس الأمنية.

منافسة دولية على الكفاءات

لا يقتصر الأمر على الداخل الأوروبي، بل يندرج في سباق عالمي على استقطاب العقول. فالاتحاد الأوروبي يجد نفسه متأخراً مقارنة بكندا والولايات المتحدة اللتين وضعتا منذ سنوات برامج هجـرة قائمة على الجاذبية الأكاديمية والبحثية. وتشير تقارير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) إلى أن أوروبا ما تزال أقل جذباً للباحثين مقارنة بأمريكا الشمالية، ما يدفعها لإعادة النظر في سياسات التأشيرات كأداة تنافسية أكثر من كونها مجرد إجراء إداري.

الخلاصة

بين خطاب التشدد الأمني وحاجيات الاقتصاد، تكشف سياسة التأشيرات الأوروبية عن توتر بنيوي لم يُحسم بعد. وإذا كان الاتحاد الأوروبي يسعى لتحديث أدواته واستقطاب الكفاءات، فإن ذلك يفرض على دول مثل المغرب بلورة استراتيجيات مضادة لحماية رأس مالها البشري وتوظيفه محلياً، بدل أن يتحول إلى رافد خارجي يغذي الاقتصادات الأوروبية على حساب التنمية الوطنية. فالهجرة هنا ليست مجرد خيار فردي، بل هي انعكاس لاختلالات في بنية السياسات العمومية المحلية كما في بنية السياسات الأوروبية.