الأحزاب بين وهم الضحية وواقع الفاعل: قراءة في تفكيك عبد الحميد بنخطاب لمعادلة السياسة المغربية

0
186

منذ سنوات، اعتادت الأحزاب المغربية أن تلوّح بـ”مظلومية” سياسية كلما ضاقت بها اللحظة أو اهتزت شعبيتها. لكن عبد الحميد بنخطاب، أستاذ العلوم السياسية، يعيد ترتيب هذا السرد، ويدفعه من منطقة الشكوى إلى فضاء المساءلة العميقة. فبالنسبة إليه، لا يمكن للأحزاب أن ترتدي ثوب الضحية داخل نظام كانت جزءًا من هندسته، حتى في فترات الصراع الأكثر قسوة.

حين تفقد رواية الضحية وزنها العلمي

بنخطاب ينسف من أساسه خطاب بعض الأحزاب الذي يحمّل الدولة مسؤولية تراجعها، مؤكداً أن أي محاولة لتحويل الأحزاب إلى “كيانات مستضعفة” لا تصمد أمام أي فحص علمي. فهذه الأحزاب هي التي تصنع السياسات عبر البرلمان، تقترح القوانين، تقود الحكومات، وتفاوض داخل المؤسسات. لذلك، فما معنى أن تشكو اليوم مما كانت شريكا فيه أمس؟

السؤال الذي يفتحه الرجل هنا ليس اتهاميًا، بل تحليلي:
هل الأزمة في الضغوط الخارجية، أم في قدرة الأحزاب على القيام بوظيفتها الأصلية داخل المجتمع؟

الوظيفة التأطيرية: ما الذي تعطّل؟

في قلب التشخيص، يضع بنخطاب ما يصفه بـ”الفراغ المفاهيمي” حول معنى التأطير الحزبي. فجوهر العمل الحزبي، في رأيه، هو نقل المواطن من موقع المتفرّج إلى موقع الفاعل؛ من حالة الرعية إلى صفة المواطن الواعي بحدود سلطته، وبحدود سلطة الدولة عليه.

لكن أغلب الأحزاب الليبرالية، يضيف، هجرت هذا الدور. لم تعد مدرسة لتكوين الوعي، بل أصبحت “ماكينات انتخابية” تعتمد على شبكات من العلاقات أكثر مما تعتمد على تنظيمات قوية أو مشروع فكري. ولأنها تشتغل بمنطق السوق، لا بمنطق السياسة، فهي تكسب الأصوات لكنها لا تكسب المواطنين.

هنا يطرح التحليل سؤالًا جوهريًا:
كيف يمكن لحزب لا يؤطّر المجتمع أن يدّعي تمثيله؟

سقوط الأيديولوجيا وصعود الفردانية

بنخطاب يشير أيضًا إلى التحولات العميقة التي ضربت الأحزاب اليسارية تحديدًا: انهيار الإيديولوجيات الكبرى، غياب نقد ذاتي حقيقي، ثم صعود الفردانية التي حلّت محل الانخراط الجماعي. ومع كل ذلك، لجأت هذه الأحزاب إلى أساليب “الماركوتينغ” الانتخابي، حيث يصبح المرشح “علامة تجارية” وبرنامجه مجرّد وعد فردي معلّق بصورته لا بأفكاره.

بهذا المعنى، صارت الانتخابات سوقًا أكثر منها لحظة سياسية؛ وصار الحزب منتجًا، لا إطارًا نضاليًا.

الاستثناء: لماذا نجا حزب العدالة والتنمية؟

في مقابل هذا التراجع، يرى بنخطاب أن العدالة والتنمية حافظ على وظيفة التأطير، ليس لأنه أكثر حداثة أو تنظيماً، بل لأنه يستند إلى مرجعية قادرة على إنتاج المعنى والتعبئة: المرجعية الإسلامية. عبر الدعوة، الجمعيات، الشبيبة، النقابة، والهيئات الموازية، استطاع الحزب أن يخلق “مجتمعًا صغيرًا” داخل المجتمع، يعيد إنتاج نفسه، ويمدّ خطابه بقدرة على الاستقطاب.

والسؤال هنا: هل يتعلق الأمر فقط بالمرجعية، أم بنموذج تنظيمي كان لبقية الأحزاب أن تبنيه لو أرادت؟

بين خطاب الأزمة ومساءلة الذات

إن ما يطرحه بنخطاب يتجاوز تشخيص أعطاب الحقل الحزبي؛ إنه دعوة إلى كسر عادة الاختباء وراء شماعة “الضغوط الخارجية” و”تحولات المجتمع” و”تآمر الدولة”. فالحزب الذي لا يقترح قوانين، ولا يؤطّر مواطنين، ولا يملك قراءة سياسية تُقنع جمهوره، لا يحق له أن يشتكي من انحسار تأثيره.

هذا التحليل يدفع القارئ إلى طرح أسئلة مفتوحة:

  • هل تحتاج الأحزاب إلى تجديد مرجعياتها أم تجديد شجاعتها في قول الحقيقة لجمهورها؟

  • هل المقاومة الحقيقية اليوم هي مقاومة تآكل التنظيم أم مقاومة “الانكماش” داخل دائرة الانتخابات فقط؟

  • وهل يمكن لحزب بلا روح فكرية أن يبني ثقة في زمن تآكل الثقة؟