الاحتقان بين وزير الصحة والنقابات: عندما تتحول الوعود إلى مصدر أزمة… قراءة تحليلية في عمق المشهد الصحي المغربي
يبدو أنّ قطاع الصحة في المغرب يعيش لحظة حسّاسة قد تُعيد ترتيب ميزان القوة بين وزارة الصحة والحماية الاجتماعية وبين التنسيق النقابي الوطني. فالقرار الأخير للنقابات بمقاطعة جميع الاجتماعات مع الوزارة إلى حين تحديد آجال قريبة للمصادقة على مراسيم متفق عليها سابقاً، لا يعبّر فقط عن امتعاض مهني، بل عن أزمة ثقة متفاقمة تهدد استقرار القطاع وأجواء عمله استراتيجياً.
هذه الأزمة ليست وليدة اللحظة، بل هي نتيجة مسار ممتدّ من الاتفاقات المؤجَّلة، والتزامات لم تُترجَم بعد إلى إجراءات ملموسة. ولذلك، فإنّ تحليل هذه اللحظة يفرض الذهاب أبعد من سطح الحدث، إلى فهم منطق الاحتقان: ما الذي جعل النقابات تقلب الطاولة؟ ولماذا تتعثّر الوزارة في تنفيذ اتفاقات تُعتبر في نظر المهنيين حقوقاً مؤجلة؟ وما هي التبعات المحتملة على القطاع الصحي ككل؟
بين التوقيع والتنفيذ: فجوة تتسع مع الزمن
منذ توقيع اتفاق 23 يوليوز 2024، ظلت النقابات تعتبر أن الملف يتحرك ببطء غير مفهوم. يتعلق الأمر بمراسيم حيوية لآلاف المهنيين:
-
مرسوم التعويض عن الأخطار المهنية،
-
مرسوم مركزية المناصب المالية والأجور،
-
مرسوم النظام الأساسي النموذجي لمهنيي الصحة داخل المجموعات الصحية الترابية (GST)،
-
مرسوم إدماج السنوات الاعتبارية للممرضين وتقنيي الصحة،
-
ومراسيم خاصة بالبرامج الصحية.
هذه الملفات لا تُعدّ تفصيلية أو ثانوية، بل تشكل العمود الفقري لورش إصلاح المنظومة الصحية التي جعلتها الدولة رافعة من روافع النموذج التنموي الجديد.
ورغم أن التوقيع على الاتفاق حمل وعوداً واضحة، إلا أنّ المهنيين لم يشهدوا أي تغيير فعلي على مستوى وضعهم القانوني أو المالي أو المهني. وهنا تكمن جذور الاحتقان.
التنسيق النقابي: من الحوار إلى المقاطعة… لماذا الآن؟
اختيار النقابات لقرار «المقاطعة الكاملة» لم يأتِ من فراغ. فحسب قيادات نقابية، ما كان يفترض أن يتحقق في أسابيع امتد لأشهر دون وضوح في الجدول الزمني، ودون صدور المراسيم التنظيمية الأساسية.
الخطوة النقابية تحمل رسائل متعددة:
1. ضغط لإعادة ضبط ميزان التفاوض
النقابات شعرت أنّ الحوار أصبح شكلياً، وأن الاجتماعات تُعقد دون نتائج ملموسة. فاختارت تغيير قواعد اللعبة عبر المقاطعة، بهدف دفع الوزارة إلى تقديم ضمانات زمنية دقيقة.
2. استعادة الثقة الداخلية
القاعدة المهنية تضغط بدورها على قياداتها النقابية، التي أصبحت مطالبة بإظهار خطوات عملية وليس فقط بيانات أو اجتماعات بلا نتائج.
3. الرسالة السياسية
النقابات تقول للوزارة: قطاع الصحة ليس مجالاً للتأجيل، لأنه يرتبط بحقوق مهنيين يعملون في خط الدفاع الأول، وقدّموا الكثير خلال السنوات الأخيرة.
لماذا تتأخر المراسيم؟ قراءة في الخلفيات التقنية والسياسية
بغضّ النظر عن الرواية النقابية، لا يمكن تجاهل أنّ إصدار هذه المراسيم يمرّ بعملية تقنية معقّدة:
1. المساطر القانونية والإدارية
كل مرسوم يحتاج صياغة، رأياً قانونياً، ثم المرور عبر وزارة المالية لتقييم الكلفة، ثم إدراجه في المسار الحكومي للعرض والمصادقة. يتم ذلك بتنسيق بين عدة قطاعات وزارية، ما يخلق بطئاً شبه بنيوي.
2. الكلفة المالية للإصلاحات
تعويضات الأخطار، وإعادة تصنيف المهنيين، ومركزية الأجور… كلها إجراءات ذات أثر مالي مباشر. وفي سياق ضغط الميزانية، قد تتردد الحكومات في تمرير إصلاحات مكلفة دون ضمان التوازنات المالية.
3. انتقال المنظومة الصحية إلى نموذج جديد
الورش الملكي لإصلاح الصحة فرض إعادة هيكلة عميقة: المجموعات الصحية الترابية، الوظيفة الصحية، تمويل جديد…
كل هذه العناصر تجعل الوزارة مطالبة بإخراج مراسيم متناغمة مع النموذج الجديد، وليس مجرد خطوات معزولة.
4. الحسابات السياسية
أي وزير يتردد في اتخاذ إجراءات يمكن أن تجرّ عليه انتقادات مرتبطة بـ«التوظيف الانتخابي» أو «الإنفاق المفرط». لذلك يصبح الحذر سيد الموقف.
الأزمة تتجاوز التقنية: إنها أزمة ثقة
يمكن تلخيص الوضع الحالي في جملة واحدة: النقابات لم تعد تثق في الوعود، والوزارة تطلب مزيداً من الوقت.
لكن زمن الصحة لا يشبه زمن السياسات العمومية الأخرى. فالتأخر في قطاع حساس يؤدي إلى:
-
إحباط مهني داخل المرافق،
-
ضعف الحافزية،
-
اضطرابات قد تؤثر على الخدمات الصحية،
-
إمكانية التصعيد (إضرابات، توقفات قطاعية)،
-
توتر اجتماعي لا يخدم أي طرف.
كيف يؤثر هذا الاحتقان على منظومة إصلاح الصحة؟
يعتمد الإصلاح الصحي على عنصرين أساسيين:
1. البنية القانونية والمؤسساتية
الوزارة تعمل على تنزيل مشاريع كبيرة مثل:
-
إحداث المجموعات الصحية الترابية،
-
تأهيل العرض الصحي،
-
دعم الرقمنة،
-
تحسين حكامة القطاع.
لكن كل هذه المشاريع تحتاج مهنيين متمكنين ومقتنعين بالإصلاح.
2. المورد البشري
وهو الحلقة الأضعف اليوم.
لا يمكن إصلاح الصحة بمعنويات منخفضة أو شعور بالإقصاء. ولا يمكن للممرض أو الطبيب أو التقني أداء مهامه بكفاءة وسط غموض حول حقوقه المهنية.
إلى أين تتجه الأزمة؟ السيناريوهات المحتملة
1. السيناريو الإيجابي
الوزارة تخرج بتقويم زمني واضح، معلن للرأي العام وللنقابات، وتطلق دفعات من المراسيم على مراحل.
هذا السيناريو يعيد الثقة ويوقف التصعيد.
2. السيناريو الرمادي
الحوار يستمر، الوعود تتجدد، لكن دون خطوات ملموسة…
وهذا السيناريو لا يقل خطورة، لأنه يطيل عمر الاحتقان.
3. السيناريو المتوتر
النقابات تتجه نحو احتجاجات أو إضرابات قطاعية، ما سيؤثر مباشرة على مسار إصلاح الصحة وعلى علاقتها بالوزير.
ما الذي يجب فعله؟ مقاربة عملية واقعية
لحل الأزمة، تبدو الحاجة ملحّة إلى مقاربة تجمع بين الجرأة والواقعية:
-
إعلان خطة تنفيذية محددة بالتواريخ:
ليس بيانات عامة، بل رزنامة واضحة لكل مرسوم. -
لجنة تقنية مشتركة مع النقابات:
تسهر على متابعة التنفيذ بشكل أسبوعي. -
تدبير مرحلي للملفات المالية:
اعتماد دفعات تدريجية، إذا كان التأخير ناتجاً عن كلفة مالية. -
تعزيز التواصل العمومي:
الرأي العام يحتاج أن يفهم أسباب التأخير، وأن يشعر بوجود مسار واضح.


