ذكر بلاغ لمديرة الأمن الوطنية، الأربعاء، توقيف إمام مسجد بمنطقة باب تازة (شمال)، وذلك بعد انتشار مقطع مصور يظهر فيه وهو يقوم بتعنيف أطفال قاصرين داخل قاعة للتعليم العتيق.
وجاء في بلاغ للمديرية العامة للأمن الوطني نشرته وكالة الأنباء المغربية أن “عناصر المصلحة الولائية للشرطة القضائية بمدينة طنجة، تمكنت مساء أمس الثلاثاء، من توقيف شخص يبلغ من العمر 44 سنة، وذلك بعدما ظهر في شريط فيديو منشور على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو بصدد تعريض أطفال قاصرين للإيذاء العمدي داخل قاعة للتعليم العتيق”.
الشرطة القضائية بطنجة توقف الإمام، الذي ظهر في شريط فيديو منشور على شبكات التواصل الاجتماعي وهو يستخدم العنف ضد أطفال قاصرين خلال حصة للتعليم العتيق. pic.twitter.com/qbRwxiKFxq
— DGSN MAROC (@DGSN_MAROC) June 1, 2022
وكان العديد من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي في المغرب قد تداولوا خلال اليومين الأخيرين، مقطعا مصورا يُظهر شخصا وهو يقوم بتعنيف أطفال قاصرين بضربهم بعصا في أقدامهم بينما كان شخص آخر يقوم بتثبيتهم، وهو ما أثار موجة من ردود الفعل الغاضبة.
ففي بوادي وقرى المغرب، انتشرت منذ قرون مدارس التعليم العتيق، التي احتضنتها الزوايا الصوفية والمساجد، فصارت قطبًا معرفيًا لصناعة نخبة ستسهم في صياغة هوية المغرب الإسلامية، وتعمل على نشر المعارف الدينية في أوساط أهل المدن والقرى، تتكفل القبيلة أو أهل القرية بإيواء الطلاب القادمين من مناطق بعيدة، وإكرام شيخ المسجد الذي يدرس الطلاب، وتتنافس القرى في جعل مدارسها العتيقة منارات معرفية معروفة، يغدق عليها المحسنون بالتبرعات ويقبل عليها الدارسون من كل مناطق المغرب.
وكانت الزوايا الصوفية في المغرب، التي أقامت هذه المدارس، مستقر النخب السياسية والفكرية التي ستعمل على مواجهة الاستعمار الأجنبي ( فرنسا وإسبانيا) للمغرب مع بداية القرن العشرين، ولعبت هذه الزوايا باعتبارها منشأ هذه النخب دورًا مهمًا في مقاومة الاستعمار والحفاظ على هوية المغرب.
لكن الاستعمار الأجنبي فرض نظامًا تعليميًّا عصريًا يستنسخ مناهجه وقيمه، ويستهدف على ما تقول بعض الروايات التاريخية بشكل مباشرة دور الزوايا المعرفي والسياسي، وهمش بشكل كبير مدارس “التعليم العتيق”، لتنزوي على الهامش، ويقتصر دورها على تكوين أئمة وخطباء المساجد.
وحاولت الدولة المغربية بعد الحصول على الاستقلال سنة 1956 إعادة الاعتبار إلى مناهج “التعليم العتيق” وإعادة هيكلة المنظومة التعليمية بهذه المدارس الدينية، لتنفتح على علوم معاصرة حديثة كالفلسفة والرياضيات وغيرها. وحرصت على جعل هذه المدارس معبرة عن الهوية الدينية للمغرب تقوم على أساس المذهب الرسمي للدولة، المذهب السني المالكي.
وزاد الاهتمام بهذه الدور ومدارس التعليم العتيق التي ألحقت بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بشكل كبير بعد الهجمات التي تعرّضت لها مدينة الدار البيضاء في 16 من مايو/أيار 2003، والتي اتهمت السلطات المغربية عناصر من تنظيمات سلفية جهادية بتدبيرها، حيث شدد جلالة الملك المفدى محمد السادس حفظه الله في خطاب له سنة 2004 على ضرورة أن تسهم هذه المدارس الدينية في نشر خطاب متوازن يدعو للانفتاح على مختلف الثقافات وينأى عن كل انغلاق.
مع تطور المجتمع، وانتشار التعليم النظامي الجديد، لم يجد الفقيه مكانا له داخل مجتمع يقوده خريجو كلية الآداب والحقوق، حتى بعض المناصب الدينية، أصبح يتولاها خريجو كلية الشريعة وأصول الدين المتفرعة بدورها عن التعليم النظامي، لذلك فقد بدأ كثير من الشبان الذين يدرسون العلوم الشرعية، يؤمون المشرق العربي، مثل: سوريا، ومصر، والسعودية، حيث كانت هذه الدول تستقبلهم، وتقوم باختبارهم لتعطيهم مستويات دراسية معينة، ومن ثم يكملون دراستهم فيها حتى يحصلوا على شهادة تعيد لهم الاعتبار، ليعودوا بعد ذلك وهم يحملون شواهد كغيرهم من أبناء التعليم النظامي.
فمع بداية القرن الـ 20، انتبه المغرب إلى خطورة هؤلاء الطلبة الذين يعودون متشبعين بثقافة مشرقية، قد لا تنسجم مع البيئة المغربية المتسامحة، منذ ذاك الحين وبالضبط في سنة 2002، أصدر الملك محمد السادس ظهيرا شريفا أعطى فيه الانطلاقة لنوع جديد من التعليم، عُرف بالتعليم العتيق، كان هدفه تحويل تلك المدارس التي كان يترأسها الشيوخ في القرى والبوادي، إلى مراكز تعليمية تابعة للدولة، تقوم الدولة بالاشراف عليها، ومراقبة الكتب التي تدرس فيها، ومع ذلك إضافة بعض المواد الأخرى مثل التاريخ والجغرافيا، والفلسفة، واللغات الأجنية، وبعض المواد العلمية الأخرى، مثل الرياضيات وعلوم الأحياء، وغيرها من المواد، حتى تسهم في إخراج رجل دين ملم بالتغيرات الكونية التي يعيشها العالم من حوله، وليس فقيهًا يلازم محرابه ويتحدث في التقوى، وبر الوالدين، وطاعة أولياء الأمور.
إذا تطلعنا اليوم إلى ثمار هذا التعليم بعد مرور أكثر من عقد من الزمان، على إنشائه، قد نقر بأن الدولة نجحت فيما كانت تصبوا إليه من وراء إنشاء هذا التعليم، في الجانب الخفي الذي كان يهمها!، باعتبار أن هذا التعليم قلل من نسبة الطلبة المتوجهين للمشرق العربي، لكن إذا نظرنا إليه هل خرَّج لنا العالِم المنشود فعلاً؟ هنا نُصاب بالإحباط وأقول هذا بكل أسف، فدون التغلغل في معرفة أسباب إخفاقات هذا التعليم، عبر تتبع كل شاردة وفاردة فيه، إلا أننا ولو بلمحة بسيطة ندرك الكثير من الأمور التي تجعلنا نقتنع بفشل هذا النوع من التعليم، والتي كانت بادية منذ نشأته!
بعد التطور في العلوم و المجتمع ، وانتشار ما يسمى اليوم بالتعليم النظامي الجديد، لم يجد الفقهاء مكانا لهم داخل مجتمع يقوده خريجو كلية الآداب والحقوق، حتى بعض المناصب الدينية، أصبح يتولاها خريجو كلية الشريعة وأصول الدين المتفرعة بدورها عن التعليم النظامي، لذلك فقد بدأ كثير من الشبان الذين يدرسون العلوم الشرعية، يؤمون المشرق العربي، مثل: سوريا، ومصر، والسعودية، حيث كانت هذه الدول تستقبلهم، وتقوم باختبارهم لتعطيهم مستويات دراسية معينة، ومن ثم يكملون دراستهم فيها حتى يحصلوا على شهادة تعيد لهم الاعتبار، ليعودوا بعد ذلك وهم يحملون شواهد كغيرهم من أبناء التعليم النظامي.
كانت المناهج الدراسية في جميع ربوع الدولة الإسلامية وفي مختلف مراحل التعليم مندمجةً فيما بينها، تندمج فيها مواد الشريعة والفكر الإسلامي بباقي المواد من فيزياء وكيمياء وطبيعيات وهندسة ولغة عربية وطب وغيرها من المواد؛ انطلاقًا من مبدأ “وحدة المعرفة” و”وحدة المصدر”، وانتهاءً بمفهوم “التكامل المعرفي” الذي يجسده واقعًا الاندماج المنهاجي؛ فكانت الجودة والكفاءات، وكان العلماء، وكانت النهضة.
كما أنَّ التعليم كان محتضَنًا من المجتمع وتحت إشراف دار الخلافة؛ فعرف النجاح وعرفت الأمة الازدهار، ولم يشكل المغرب الاستثناء؛ فقد اجتهد السلاطين المغاربة على مر العصور منذ المولى إدريس الأكبر، مرورًا بالدول المتعاقبة على الحكم في المغرب، من الدولة الإدريسية، والدولة المُرابطية، والدولة الموحِّدية، والدولة المَرينية، إلى عهد الدولة العلوية الشريفة – في العناية بالتعليم الإسلامي، كل حسب رؤيته، من خلال بناء المدارس والمراكز العلمية، ورعاية العلماء، وتنظيم مجالس للعلم، وكان القاسم المشترك بينهم هو الغيرة على هذا النوع من التعليم الذي يشكل صمام الأمان للهُوية الإسلامية، والضامن لمواصلة الريادة والزعامة الفكرية والثقافية بين الأمم؛ فمنذ تأسيس جامع القرويين سنة 245هـ في عهد يحيى بن محمد بن إدريس، خامس الأدارسة، اهتم السلاطين المغاربة بالتعليم، ولم يفرقوا فيه بين الديني والدنيوي، بل اعتبروا جميع أنواع التعليم دينيةً؛ لأنها تخدم الإنسان بصفة عامة في حمل مشعل القيام بأمانة الاستخلاف وإعمار الأرض.
ففي العصر المرابطي: اعتنى السلاطين بهذا النوع من التعليم بأن أسسوا عدة مدارس إسلامية لتلقين المعارف، ودشنوا الجوامع الدينية لتدريس العلوم الشرعية والفقهية، كما عملوا على توسيع جامع القرويين، وأسسوا جامع ابن يوسف بمراكش، يضاهي جامع القرويين بفاس.
وفي عهد الموحدين: تم بناء عدة مساجد ومدارس، منها المسجد الأعظم بمدينة سَلَا ومدرسته الباقية إلى الآن، ومدرسة الشيخ أبي الحسن الشاري من أعلام ذاك العصر، التي أنشأها في مدينة سَبْتَة.
كما اهتم المَرينيون اهتمامًا كبيرًا بالعلماء والفقهاء وطلبة العلم، فبالإضافة إلى المؤسسات الدينية والمساجد، عملوا على بناء عدة مدارس، من أهمها:
مدرسة الصفارين التي بناها السلطان يعقوب بن عبدالحق سنة 670هـ، ومدرسة فاس الجديدة التي بنيت بأمر من الأمير علي بن أبي سعيد عثمان، ومدرسة الصهريج التي بنيت سنة 721هـ في عهد السلطان أبي سعيد عثمان بن عبدالحق، ومدرسة العطارين التي شيدت سنة 723هـ، والمدرسة البوعنانية التي بناها السلطان أبو عنان بن أبي الحسن سنة 755هـ، والمدرسة العظمى في مراكش التي بناها السلطان أبو الحسن علي المريني.
لقد اهتمت هذه المدارس والجوامع بجميع أنواع العلوم، وكانت كلها تدور حول العلوم الشرعية وتنطلق منها.
أما في العصر العلوي، فقد انتشرت المدارس العتيقة والمعاهد الدينية والكتاتيب القرآنية بشكل كبير؛ فمن اهتمامهم بالتعليم الديني عمل السلطان محمد بن عبدالله العلوي على الإشراف على عدة إصلاحات، من قبيل التركيز على العلوم النقلية والتوجه العقائدي السلفي، والعناية بنشر كتب السُّنة، ومنع تدريس الفروع والعلوم العقلية كعلم الكلام والفلسفة والمنطق وتصوف الغلاة.
وقد تابع العلويون بناء المدارس العتيقة والمدارس الدينية إلى الآن.