بعد فشل اتفاقيات أوسلو، جاءت “صفقة القرن” لتئد فكرة الدولة الفلسطينية. وقد انجرّ عن ذلك موجة من العنف استفاد منها كل من إسرائيل وحماس. في الأثناء، تبقى الانتخابات التي يساندها المجتمع الدولي فرصة ليكون للتعبئة الشعبية الأخيرة التي انطلقت من القدس استمرار سياسي في فلسطين.
أنهى العنف الشديد الذي شهدته فلسطين وإسرائيل خلال الشهر الأخير ثلاثة عقود من محادثات السلام التي لم تسفر أبدا على أي نتيجة. كانت البداية، مع اتفاقيات أوسلو التي لم تنجح في وضع إطار حقيقي للتعايش بين الفلسطينيين والإسرائيليين على المدى الطويل، كما لم تنجح في خلق مناخ من الثقة اللازم لإرساء حلّ الدولتين. من جهة أخرى، فقد منحت اتفاقيات أوسلو -والتي أيدها المجتمع الدولي- صلاحيات للسلطة الفلسطينية جعلت منها شرطيا فلسطينيا في سياق احتلال متواصل.
أسفر فيما بعد الفشل المتواصل لإعادة إطلاق المفاوضات حول حلّ الدولتين إلى “صفقة القرن”. أكّد هذا المشروع المهيمن لإدارة ترامب أن الولايات المتحدة الأمريكية تنازلت عن أي مكانة أخلاقية وعن احترام القانون الدولي، بعد أن منحت إسرائيل سلطة كاملة لإضفاء طابع رسمي على ضمها غير القانوني لأراض فلسطينية ومواصلة الاحتلال. أما الدول العربية المشاركة في “اتفاقيات إبراهيم”، فقد ساندت إسرائيل لأسباب استراتيجية، إذ أن تل أبيب تمثل بالنسبة لهم حليفا ملائما ضد إيران في سياق جيوسياسي يتميز بانسحاب أمريكي من المنطقة.
قوّضت “صفقة القرن” بيت السلام الهش الذي بنته “أوسلو”، وباعت حقوق الفلسطينيين بثمن بخس، كما ضربت عرض الحائط فكرة دولة فلسطينية. موجة العنف الأخيرة كانت نتيجة حتمية لهذا الظرف، ما يؤكّد فشل التطبيع، كما ذكّرت بالمعارك الأخيرة التي دارت بين حماس وإسرائيل والتي كانت غزة مسرحا لها.
لعبة حماس وإسرائيل المبتذلة
لكن لو نظرنا بدقة أكثر لهذا الوضع، لتبين لنا أن هذه الأزمة ليست تكرارا لما سبق، إذ نرى فيها تفاصيل جديدة، مثل تلاقي مصالح حماس وإسرائيل لإخماد نار التعبئة الشعبية الفلسطينية. كلاهما يخشى ما ترمز إليه أحداث حي الشيخ جراح، أي نشأة حركة مدنية لحقوق الفلسطينيين. على غرار حركات اجتماعية أخرى، فضّل فلسطينيو الشيخ جراح العصيان السلمي عن الصراع المسلّح. فضلا عن ذلك، لم تولد هذه الحركة من رحم حماس أو السلطة الفلسطينية، بل منحت للعديد من الفلسطينيين إطارا سياسيا غير مسبوق. يمثل هذا الوضع مفارقة تاريخية. فحتى فترة غير بعيدة، كان من المنتظر أن تؤثر المسألة الفلسطينية في الربيع العربي. لكن ما حصل هو أن فكر المقاومة المدنية الذي ميّز الربيع العربي هو الذي غيّر المعادلة الفلسطينية. مقاومة أهالي القدس الشرقية ضد الترحيل القصري الإسرائيلي يعتمد على شبكات تضامن أفقية تجمعها لغة مقاومة جديدة. وقد عزز هذه التعبئة التحرك الذي شهدته كامل الأراضي الفلسطينية، وكذلك التضامن الدولي، من خلال مسيرات التضامن التي شهدها كل من العالم العربي والغربي.
سلمية هذا التحرك هي التي أنتجت الرد الإسرائيلي العنيف، والتي أسفرت بدورها عن دخول حماس لساحة المعركة، كونها وحتى أحداث حي الشيخ جرّاح القوة الفلسطينية الوحيدة التي كانت مصممة على الوقوف في وجه التصلب الإسرائيلي.
أما الوضع في الضفة الغربية، فهو معبّر للغاية، حيث قُتل 25 فلسطينيا وهو أكبر عدد لضحايا أزمة واحدة منذ انتفاضة الأقصى منذ 20سنة. لكن ذلك لا يمنع تواصل المظاهرات في فلسطين وإسرائيل، وهو أمر لم نشهده منذ ثورة 1936. كما لم نشهد هذا العدد الهائل من الاعتقالات الإسرائيلية للفلسطينيين منذ الانتفاضة الثانية، وقد بلغ عددها بالآلاف منذ شهر أبريل/نيسان.
في الخوف من هذه التعبئة تلتقي مصالح حماس وإسرائيل، بينما يريد كل منهما إبادة الآخر. إذ هما يلتقيان في بعض المواقف بحكم الظروف، دون وجود لاتفاق بينهما. إسرائيل تعوّدت المعارك العنيفة، لكنها تجد نفسها مربكة أمام معجم الحقوق المدنية الأخلاقي. ورؤية حماس الإيديولوجية تأسست على مبدأ الكفاح المسلح، لا على حركة شعبية ديمقراطية متجذرة في القدس، مهد فلسطين التاريخية.
لقد جعلت “أوسلو” من منظمة التحرير الفلسطينية هيئة حكومية بإلغاء وضعها السابق كـ“مكوّن إرهابي”. ومن سخرية تاريخ عملية السلام أن حماس بدورها قد تفقد صفتها كـ“منظمة إرهابية”، كون إسرائيل مجبرة في السياق الراهن على مخاطبة طرف مقابل. كلّ من حماس وإسرائيل استفادا من العنف. فقد شرّعت الحكومة الإسرائيلية استراتيجيتها لعسكرة القضية الفلسطينية من خلال التركيز على حقها في الدفاع عن نفسها. حتى منافسو نتانياهو مثل بيني غانتس أيّدوا القصف على غزة. أما حماس، فهو على وشك أن يتحول إلى نسخة فلسطينية لحزب الله اللبناني، بعد أن سمح له هذا الصراع بالتحول من منظمة مقاومة وطنية إلى قوة عسكرية، تمكنها قدراتها المسلحة من الانخراط في زمن أطول وعلى صعيد أوسع، دون الاكتراث بمصالح شعبها. كلا الطرفان لا يبحث حقا عن حل سلمي، بل يقوّي كل منهما الآخر بطريقة مبتذلة، في إطار مسرحية محكمة الأدوار والطقوس، وداخل خطوط حمراء يعرفها كل من الطرفين حق المعرفة.
من المستفيد من الجريمة؟
تمكّن أكثر من فاعل في المنطقة أن يعزز مكانته بفضل هذا الصراع. فقد برز المحور القطري-التركي المناهض للمحور الإماراتي-السعودي-الإسرائيلي بسرعة كالمدافع عن حق الفلسطينيين. وقد استحسن العديد في العالم الإسلامي الخطاب الحماسي للرئيس التركي رجب طيب أردوغان بصفة خاصة، ودعواته من أجل حماية أهالي القدس من اعتداءات جديدة. من جهته، لبس أمير قطر مجددا عباءة حامي حمى الشعب الفلسطيني.
بفضل هذه الأزمة، عادت مصر والأردن كذلك إلى الواجهة بفضل جهودهما من أجل مفاوضات وقف إطلاق النار. وكان على الأردن التحرك بحكم وضعها المعقد، فهي لا تزال حارسة الأماكن المقدسة في القدس، لكنها تخشى أن تدفع الثمن باهظا وأن تصبح مع مرور الوقت دولة بديلة بالنسبة للفلسطينيين. أما مصر، فقد راوحت بين النشاط المساند للفلسطينيين ووساطة محايدة كتلك التي كانت تؤمّنها زمن مبارك.
لكن الأمر كان مختلفا بالنسبة لفاعلين دوليين آخرين. فقد تراجع دور الولايات المتحدة الأمريكية أكثر فأكثر كحاكم سلام، وقد أفسدت على نفسها كل إمكانية مستقبلية لاسترجاع هذا الدور، بعد أن أظهرت بوضوح التدخلات المتكررة لإدارة بايدن لإيقاف نقاشات مجلس الأمن للمطالبة بوقف إطلاق نار، حدود التأثير الديبلوماسي الأمريكي وخاصة أنها لا تريد وضع حد للاستثناء الإسرائيلي.
لم يكن دور الاتحاد الأوروبي أحسن، إذ لم ينجح في تنسيق عمل جماعي للدول الأعضاء إلا بعد أسبوع من العنف، وكل ما استطاع أن يفعله هو إطلاق دعوة محتشمة للسلام. فالاتحاد الأوروبي لم يخرج بعد من ظل الولايات المتحدة الأمريكية.
في العالم العربي، تفاجأت الإمارات العربية المتحدة بعد أن راهنت على اختفاء أي محاولة فلسطينية للانتفاضة على الوضع الراهن. فبعد مفاوضات “اتفاقيات إبراهيم” لسنة 2020، تمت تهنئتها لمساهمتها في إرساء حقبة جديدة لسلام متعدد الأطراف. لكن الأزمة الأخيرة أكدت أن الاتفاق بين الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل كان مجرد وسيلة استراتيجية لتعاون ثنائي حول المسائل الإقليمية، لا علاقة له بالملف الفلسطيني. وبينما تبنت الأصوات غير الرسمية على شبكات التواصل الاجتماعي الخطاب الإسرائيلي ولغة “الدفاع عن النفس”، تطوعت الحكومة الإماراتية لوساطة بين حماس وإسرائيل قبل أن تأخذ مصر والأردن بزمام الأمور.
تبقى بيد الإمارات العربية المتحدة ورقة مهمة وهي ورقة محمد دحلان، الفتحاوي السابق في غزة والمنافس الشرس لمحمود عباس، ما يجعله مستهدفا من قبل فتح. كما تتوجس حماس من دحلان بسبب القاعدة الشعبية التي يتمتع بها في غزة وانتقاده للحركة الإسلامية فيما مضى. وقد يصبح بدوره طرفا في هذه اللعبة بمساندة إماراتية.
أما المملكة العربية السعودية وإيران، فقد بقيتا على هامش الأزمة، ما يترجم عن ضعفهما. لقد أصبحت الرياض أكثر حذرا وباتت تبحث عن توازن جديد بين مصالحها الداخلية والإقليمية. فقد نجح التدفق الشعبي الذي أحيا المشاعر المؤيدة لفلسطين في تعليق ميل المملكة المحتشم إلى التطبيع مع إسرائيل -مؤقتا على الأقل.
أما إيران، فهي تواجه صراعا من نوع آخر، بعد أن باتت ذات نجاعة كبيرة في المنطقة. فطهران نقلت تقنيات الصواريخ الخاصة بها إلى حماس التي تبنت أسلحتها وباتت تنتج بنفسها الصواريخ التي تطلقها اليوم. لكن حماس لم تلتحق بما يسمى بـ“المحور الشيعي” واختارت أن تبقى في كنف العائلة السنية، كونها تابعة تاريخيا لتنظيم الإخوان المسلمين. لذلك، لم تتمكن إيران من استغلال الصراع الأخير لأهداف جيوسياسية، ناهيك أن حزب الله لم يرد الفعل عسكريا على قصف غزة، ما كان سيترجم عن تصعيد إيراني. بل تبقى أولوية طهران تجميع قواتها في العراق والبحث عن تسوية في الملف النووي مع الغرب.
الانتخابات التشريعية هي الحل
هذا المشهد الإقليمي المتغير من جهة، وتلاقي مصالح حماس وإسرائيل من جهة أخرى، يضعان الفلسطينيين في وضع يائس. تبقى الطريقة الأمثل للخروج من الأزمة هي تنظيم الانتخابات التي ما فتئت حماس وفتح تؤجلانها، فكلاهما يخشى أن تضيع منه صلاحياته، حماس في غزة وفتح في الضفة.
لكن هذه الانتخابات قد تعطي للشعب الفلسطيني أفضلية أساسية قد تمكنه من التلاقي مع النضالات الكبرى في العالم من أجل حقوق الإنسان، من نلسون مانديلا حتى Black Lives Matter. يمكن لهذه الانتخابات أن تمنحه حكومة شرعية تمثله عبر العالم وتعيد إمكانية وجود حل الدولتين أو أي حل واقعي آخر. كما سيمكن ذلك أصواتا فلسطينية جديدة -مثل الناشطين الذين تحركوا ضد ترحيل أهالي حي الشيخ جراح- من أن يحلوا محل النخب المسنة التي تقودهم منذ اتفاقيات أوسلو. كما سيشجع ذلك على ظهور بديل سياسي فلسطيني محلي، ويتفادى حكومة مستقبلية تقودها حماس بعد أن أصبحت بمثابة حزب الله فلسطيني، أو تقودها فتح التي باتت أسيرة ريعها كشرطي بالوكالة.
هنا يمكن للمجتمع الدولي أن يتدخل في الاتجاه المناسب. لن تنهي أي إدانة دبلوماسية لإسرائيل الاحتلال وعملية الضم، ولن يقنع أي عقاب أو تهديد حماس بالتخلي عن موقفها العسكري. بالعكس، يجب على المجتمع الدولي تشجيع إجراء انتخابات ديمقراطية في فلسطين لإعطاء صوت للأغلبية الصامتة، حتى يتسنى الخروج من هذا المأزق السياسي وتوفير طريقة بديلة لضمان حقوق الشعب الفلسطيني.