الأندلس ليست ذكرى… إنها حاضرٌ حي في قلب المغرب: ندوة وطنية تُعيد الروح لموروث التعايش والتسامح

0
91

في قاعة المكتبة الوطنية بالرباط، لم يكن الحضور مجرّد متلقٍ لمحاضرات أكاديمية، بل بدا وكأنه يعيد استنشاق نَفَس حضارة ما تزال تسري في تفاصيل الحياة اليومية للمغاربة.

ندوة بعنوان “حضارة الأندلس: جذورها وامتداداتها في المملكة المغربية”، نظمتها جمعية “أندالوز” بدعم من وزارة الشباب والثقافة والتواصل، جاءت لتُعيد رسم ملامح هذا الإرث المتجذر، لا كماضٍ منتهي، بل كحاضر نابض في فاس وتطوان وسلا وطنجة والرباط…

في تصريحاته، لم يكتف رئيس الجمعية، توفيق العوفير، بإلقاء الضوء على عظمة الأندلس كصفحة من التاريخ، بل دعا إلى قراءتها كـ”مشروع متجدد” لترسيخ قيم التعدد والعيش المشترك في زمن يُعاد فيه طرح سؤال الهويات والانغلاق والانفتاح.

ولم يَغِب عن هذا اللقاء الحضور المؤسساتي، حيث مثّل وزارة الشباب والثقافة والتواصل السيد حسن المزداوي، مستشار الوزير، والذي كان من بين اللبنات الأساسية في إنجاح هذه التظاهرة الثقافية. وقد أبرز توفيق العوفير، في كلمته، الدور الفاعل الذي لعبه المزداوي في دعم الندوة وتيسير انعقادها في هذا الفضاء الرمزي، مشيرًا إلى حرصه الكبير على إبراز أهمية هذا الحدث وتسليط الضوء على أبعاده الحضارية والثقافية، ما منح اللقاء بُعدًا مؤسساتيًا داعمًا، ورسّخ قناعة بأهمية انخراط الدولة في حماية هذا الإرث الثقافي المتجذر.

لكن هل ما زالت الأندلس تعيش بيننا فعلاً؟ سؤال لا يجيب عنه الأكاديميون وحدهم، بل يمكن سماعه في صوت “المعلم عبد السلام” في أحد دروب فاس القديمة، وهو يشرح لزوار أجانب أسرار الزخرفة الجبسية الأندلسية في المدارس العتيقة، أو في أنامل نساء تطوان وهنّ يطرزن ملابس العرس على الطريقة الأندلسية، أو في ارتعاشات آلة “العود” في سهرة موسيقية داخل رواق ثقافي صغير بالمدينة القديمة.

الندوة لم تكتف بإحياء النقاش الفكري، بل أرفقت محاورها بجلسة موسيقية أندلسية أحيتها فرقة “كورال أندالوز”، بقيادة الفنان مولاي هشام البلغيتي، لتنتقل الأندلس من دفاتر الأوراق إلى نبض الآلات وأصوات المنشدين، في لحظة شعر فيها الجميع بأن هذا التراث ليس مجرد أثر، بل تجربة حية.

من جهته، قال الفاعل الجمعوي عبد الحكيم الهلالي إن “الأندلس كانت ولا تزال منبرًا للعيش المشترك ومنارة للتسامح”، مؤكداً أن المغرب لم يحتضن هذا التراث فقط، بل “احتضنه بعاطفة، وجعل منه لبنة أساسية في تشكيل شخصيته الثقافية”.

وهو ما تؤكده شواهد الواقع اليوم: الأسواق الشعبية، أسماء الأزقة، العادات الأسرية، الأطعمة، الفنون، بل حتى في صياغة بعض العبارات اليومية… كلّها تُحيل إلى وعيٍ جمعي استبطن قيم الأندلسيين دون أن يدرك ذلك بالضرورة.

الجلسات الأربعة التي عرفتها الندوة تناولت محاور مثل الهجرات الموريسكية، ومكانة الأندلس في الدراسات الاستشراقية، وتعليم التراث الأندلسي، لكن الأهم لم يكن في المحاور، بل في الإشارات: أن هذا الموروث لا يجب أن يُحتجز في قاعات الندوات، بل أن يُفتح على المدارس والحيّ والعائلة والمقهى والشارع… أي أن يصبح مادة حيّة لصناعة وعي متجدد.

وفي هذا السياق، ثمّن المتدخلون جهود الملك محمد السادس في صيانة المدن العتيقة التي لا تزال تحتفظ ببصمات أندلسية واضحة، وفي تشجيع البحث الأكاديمي، وتمويل الفرق الفنية التي تحافظ على فنون الطرب الأندلسي، ما يمنح الثقافة موقعًا لا كمجال للترف، بل كرافعة للهوية وأداة للتأثير الناعم في علاقات المغرب مع محيطه المتوسطي.

وفي ختام الجلسة، شدد توفيق العوفير على أن “دروس الأندلس ليست حكاية ألم، بل درس في الأمل”، داعيًا إلى تحميل هذا المشعل للأجيال الجديدة، ليس فقط بإعادة سرد التاريخ، بل بجعل الثقافة الأندلسية تعبيرًا حيًا عن التنوع والتعايش داخل المغرب المعاصر.