في مشهد يعكس ارتجاجًا ناعمًا في بنية التفكير السياسي الأوروبي حول قضية الصحراء، وضع حزب الحركة الإصلاحية (MR) في برلمان جهة بروكسل مقترح قانون غير مسبوق، يدعو بشكل صريح إلى الاعتراف بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، ويقترح فتح مكتب اقتصادي وتجاري في العيون أو الداخلة، في ما يشبه الخروج الرمزي من المنطقة الرمادية إلى الفعل الدبلوماسي الميداني.
ما الذي تغيّر؟ وما الذي يجعل جهة بروكسل، القلب النابض للاتحاد الأوروبي، تبادر سياسيًا في ملف بقي لزمن طويل حبيس التردد الأوروبي؟
من منطق “النزاع” إلى منطق “الشراكة”
الوثيقة التفسيرية المرفقة بالمقترح تكشف عن تحوّل جوهري في زاوية الرؤية: فالمغرب لم يُقدَّم فقط كشريك تجاري، بل كفاعل استراتيجي في محيط مضطرب، وكنقطة ارتكاز محتملة لبناء نموذج شراكة جنوب-جنوب، في وقت تبدو فيه أوروبا نفسها في حاجة إلى إعادة تعريف أمنها الاقتصادي والجيوسياسي.
هنا لا يُقرأ مقترح الحكم الذاتي باعتباره حلًا مغربيًا فقط، بل كمدخل أوروبي أيضًا لضمان الاستقرار، ومحاصرة التهديدات الأمنية، وتوسيع الهوامش الاقتصادية.
الجالية المغربية ببروكسل: من معطى ديمغرافي إلى رافعة جيواقتصادية
توقف المشرعون في بروكسل أمام الطابع الجسري للجالية المغربية في العاصمة البلجيكية. لم تُطرح كعنصر إدماج اجتماعي، بل كقناة اتصال طبيعي، ومخزون من العلاقات والخبرات العابرة للحدود، يمكن أن يُوظف لتغذية تعاون مؤسسي وتجاري أعمق، يستفيد من الامتدادات الثقافية والبشرية نحو المغرب، خاصة في أقاليمه الجنوبية.
هل نحن إزاء بداية هندسة استراتيجية جديدة لدور الجاليات في السياسة الأوروبية الخارجية؟
فتح مكتب اقتصادي في الداخلة: دبلوماسية التنمية أم اعتراف واقعي بالسيادة؟
المقترح لا يكتفي بدعوة رمزية، بل يتحدث عن آلية مؤسساتية عملية: مكتب تابع لـ hub.brussels يُقام في الداخلة أو العيون. وإذا تم ذلك، فستكون بروكسل أول جهة أوروبية تنشئ حضورًا اقتصاديًا رسميًا في الأقاليم الصحراوية المغربية.
السؤال هنا: هل هذا التوجه استثناء بلجيكي أم نقطة بداية لمقاربة أوروبية ميدانية تُغادر خطاب الحذر نحو فعل الشراكة؟
الصحراء المغربية: من عبء سياسي إلى منصة استراتيجية
بنية المرافعة البرلمانية تقوم على فكرة محورية: أن الجنوب المغربي لم يعد مجرد “إقليم نزاع”، بل فضاء ديناميكي لصياغة تحالفات اقتصادية جديدة.
ميناء الداخلة الأطلسي، مشاريع الطاقة المتجددة، المناطق الصناعية، والمدن الجديدة، تحوّلت كلها إلى علامات على تحوّل جيو-اقتصادي متسارع في المنطقة.
هل تتحول الأقاليم الجنوبية المغربية إلى بوابة جديدة للولوج الأوروبي إلى إفريقيا الغربية؟ وهل يضع المغرب نفسه كبديل آمن في زمن القلاقل الجيوسياسية؟
توازن بلجيكي دقيق بين القانون الدولي والواقعية السياسية
المقترح البلجيكي يستحضر قرارات مجلس الأمن ويُشيد بدور الأمم المتحدة، لكنه يلتقط في الوقت نفسه التغير الدولي المتنامي تجاه اعتبار مقترح الحكم الذاتي المغربي أساسًا جديًا وواقعيًا للحل.
المقترح إذًا لا يخرج عن الشرعية الدولية، لكنه يُراهن على براغماتية متقدمة تعترف بما هو قائم، وتستثمر في ما هو قابل للتحقق.
الخلاصة: المغرب يُراكم مكاسب هادئة بلغة المصالح لا الشعارات
يبدو أن الربح الحقيقي للمغرب لا يُصنع فقط في أروقة نيويورك، بل في التحولات الصامتة داخل البرلمانات الجهوية، ومجالس المدن، ودوائر الأعمال الأوروبية.
المقترح البلجيكي لا يحسم شيئًا بمفرده، لكنه يُنذر بتغيّر موازين الخطاب داخل أوروبا: من التحفظ إلى التفاعل، ومن التخوّف إلى البحث عن فرص التعاون.
فهل تلتقط جهات أوروبية أخرى هذا التحوّل؟ وهل نشهد في السنوات القادمة شبكة تمثيليات اقتصادية أوروبية في الصحراء المغربية تؤسس لمرحلة ما بعد النزاع؟