في الكواليس الصامتة للاقتصاد المغربي، تتحرك الإدارة الجبائية كما لو أنها جهاز استشعار لنبض الخلل. هذه المرة، لم يكن الحديث عن مجرد مخالفات شكلية، بل عن عمليات تفويت واستقالات مشبوهة داخل شركات بدت وكأنها تهرب من واقعها المالي أكثر مما تهرب من الضرائب نفسها.
المديرية العامة للضرائب وجّهت فرق المراقبة الجهوية لفتح ملفات تبدو للوهلة الأولى عادية، لكنها تخفي خلفها قصصاً من التحايل المالي والانسحاب التكتيكي لمسيرين باعوا أسهمهم وغادروا مقاعدهم بعد أن ثقلت الديون وفاحت رائحة العجز. السؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل أصبح التسيير المؤقت وسيلة لتبييض المسؤولية قبل الانسحاب؟
المعطيات التي بين أيدي مصالح المراقبة ليست وليدة الصدفة. بل جاءت من قسم تحليل المخاطر الذي رصد موجة من الاستقالات المفاجئة في شركات كانت تعيش على الحافة. هناك، حيث تتقاطع الحيلة القانونية مع الإفلاس الأخلاقي، يظهر نمط جديد من التهرب: لا عبر إخفاء الأرباح، بل عبر تفويت الكراسي والمناصب كما لو أنها عبء لا يمكن احتماله.
لكن القانون، كما تشير الإدارة الجبائية، لا ينسى بسهولة. فبيع الحصص أو تقديم الاستقالة لا يمحو آثار التسيير السابق، ولا يعفي المسير من الكفالات الشخصية أو القروض التي وقّع عليها باسم الشركة. وهنا تكمن المعضلة الأخلاقية والاقتصادية: إلى أي مدى يمكن للمنظومة القانونية أن تلاحق المسؤولية في زمن أصبح فيه المال أكثر مراوغة من النصوص؟
التحقيقات، كما تؤكد المصادر، تمتد إلى شبكات وسطاء ومحاسبين احترفوا سمسرة الشركات المتعثرة، يبيعونها كما تُباع الأسماء التجارية، ويقنعون زبائنهم بأن البيع هو طريق الخلاص من المساطر الجبائية. لكن في الواقع، لا يتم بيع الشركات فقط، بل يُباع معها الوهم؛ وهم الإفلات من المتابعة، ووهم بداية جديدة على أنقاض مالية محروقة.
في خلفية المشهد، نرى شركات بلا أنشطة حقيقية، تُستخدم كواجهات للحصول على قروض أو تسهيلات بنكية أو حتى لتسهيل السفر والحصول على التأشيرات. شركات تتحرك على الورق فقط، بينما الاقتصاد الحقيقي يدفع الثمن. إنها ظاهرة تعكس تحول الريع إلى تقنية مالية متقدمة، حيث يتم توظيف القوانين نفسها كأدوات للهروب منها.
وربما السؤال الأعمق الذي يطرحه هذا المشهد هو: هل نحن أمام أزمة ضريبية فقط، أم أمام أزمة قيم اقتصادية جعلت من الإفلات من المسؤولية نوعاً من الذكاء المهني؟ وهل تكفي المراقبة الجبائية وحدها في مواجهة منظومة من التحايل الجماعي تمتد من المكاتب المحاسبية إلى البنوك، ومن المسيرين إلى الوسطاء؟
في النهاية، لا يتعلق الأمر بعمليات تفويت معزولة، بل بظاهرة تكشف عن تصدّع في العلاقة بين المال والمسؤولية. فحين تتحول الشركة إلى غطاء، والمسير إلى عابر طريق، والضريبة إلى عبء لا التزام، فإننا نكون أمام ما يمكن تسميته اقتصاد الهروب — اقتصاد يراكم الأرباح حين يكون الضوء مسلطاً، ويختفي حين يُطلب الحساب.