في لحظة سياسية واجتماعية دقيقة يعيشها المغرب، حيث يستمر الحراك الشبابي في شوارع المدن وفضاءات التواصل الاجتماعي، اختارت الحركة الشعبية أن تُصدر بلاغًا يحمل في طياته أكثر من رسالة. قرار تأجيل اللقاء المقرر مع مغاربة العالم في مدينة مونبلييه الفرنسية، مقابل الدعوة إلى اجتماع طارئ لمكتبها السياسي بالرباط، لا يمكن أن يُقرأ فقط كخطوة تنظيمية عابرة، بل كإشارة سياسية مركبة تستحق التوقف عندها.
أولوية الداخل على الخارج
البلاغ الصادر عن الأمانة العامة، والموقع باسم الأمين العام محمد أوزين، قدّم القرار باعتباره تعبيرًا عن الالتزام بعقد اللقاءات “في الظروف المناسبة”، لكن المتابع للشأن السياسي يدرك أن الرسالة الأعمق تكمن في وضع الأولويات: الداخل قبل الخارج، ونبض الشارع قبل الصور التذكارية مع الجالية. فهل نحن أمام حزب يعيد ترتيب بوصلته انسجامًا مع التحولات الاجتماعية؟ أم أن الأمر لا يعدو كونه محاولة لتفادي انتقادات محتملة، لو أصرّ على عقد اللقاء في وقت يحتقن فيه الوضع بالبلاد؟
صورة الحزب وزعيمه
لا شك أن هذا الموقف يخدم صورة محمد أوزين، الرجل الذي يسعى منذ توليه الأمانة العامة إلى إعادة تقديم نفسه كقيادي “قادر على قراءة اللحظة”. في مقابل قادة آخرين يُتهمون بالانفصال عن الشارع، يختار أوزين خطاب التفاعل والتجاوب. لكن هل تكفي هذه الرمزية لتكريس صورة الحزب كفاعل جاد في المعادلة السياسية؟ أم أن المتظاهرين الذين يرفعون شعارات ضد السياسات العمومية ينتظرون أكثر من مجرد بيانات متوازنة؟
اجتماع طارئ… ولكن لأي غاية؟
الدعوة إلى اجتماع طارئ للمكتب السياسي يوم 2 أكتوبر تبدو خطوة لافتة. لكنها تطرح بدورها سؤال المخرجات: ماذا بعد هذا الاجتماع؟ هل سيُترجم إلى مواقف عملية، مثل تقديم مقترحات تشريعية عاجلة أو الضغط من داخل البرلمان من أجل مراجعة السياسات العمومية في مجالات التشغيل والتعليم والصحة؟ أم أن الأمر سيظل في حدود النقاش الداخلي والبيانات التي تُشيد بالمسؤولية الوطنية دون أن تلامس جوهر الإشكاليات؟
بين الحرص والجرأة
قرار الحركة الشعبية بتأجيل لقاء مونبلييه لا يمكن اعتباره تراجعًا أو تنازلًا أمام الضغوط، بل هو تجسيد لجرأة سياسية تضع أولويات الوطن فوق أي اعتبار آخر. فاختيار التركيز على الحراك الاجتماعي عوض الانشغال بلقاء خارجي، يعكس حسًا قياديًا يدرك أن اللحظة تحتاج إلى حضور داخلي فاعل، لا إلى صور بروتوكولية أو مناسبات تواصلية مؤجلة. بهذا المعنى، أظهر الحزب أنه قادر على اتخاذ قرارات صعبة في وقت حساس، واضعًا المصلحة الوطنية فوق أي حساب تنظيمي أو ظرفي.
اختبار للمصداقية
المرحلة الحالية تُعتبر اختبارًا عسيرًا لمصداقية الأحزاب السياسية. فالحراك الاجتماعي، بقيادة جيل شاب غاضب، لا يرحم الخطابات ولا يلتفت كثيرًا إلى البلاغات التي تكرر نفس القاموس. كل حزب يجد نفسه اليوم أمام معادلة واضحة: إما أن يترجم مواقفه إلى مبادرات ملموسة وواقعية، وإما أن يُحاكم من طرف الشارع باعتباره جزءًا من المشكلة لا من الحل.
الخلاصة
قرار الحركة الشعبية بتأجيل لقاء مونبلييه والدعوة لاجتماع طارئ للمكتب السياسي قد يكون من الناحية الرمزية خطوة مسؤولة وبطولية، تُحسب للحزب باعتباره أولوية الداخل على الخارج. لكنه في الوقت نفسه يظل مجرد إشارة قوية ما لم تتبعها قرارات عملية تُحدث فرقًا في النقاش العمومي.
والسؤال الذي يظل مطروحًا بإلحاح: هل ستظل الأحزاب تكتفي بإصدار البلاغات المتوازنة، أم أن اللحظة تفرض مبادرات شجاعة وملموسة تعيد الثقة المفقودة بين الشارع والطبقة السياسية؟