ثمة نصوص لا تُقرأ باعتبارها مجرد انطباعات شخصية، بل بوصفها شهادات زمنية تلخص في طياتها مسار مدينة بأكملها. النص الذي خطّه الصحفي طلحة جبريل عن الرباط، ليس مجرد سرد ذكريات عابرة، بل هو رسم بانورامي لعاصمة عاشت تحولات عميقة بين الأمس واليوم.
مدينة تُشبه نفسها… وتُخالف نفسها
حين وصف الكاتب الرباط بأنها “مدينة أليفة، تحتفظ بأسرارها”، كان يستدعي صورة عاصمة لم تكن فقط إدارية، بل كانت فضاءً ثقافيًا وروحيًا، حيث الكتب والمقاهي والروائح العابقة بزهر البرتقال. كانت المدينة آنذاك تحافظ على إيقاع خاص: ناس يقرأون، مكتبات تعرض ثمرات المطابع كأنها خبز ساخن، وفضاءات تفيض بالهدوء والبهاء.
لكن الزمن، كما يقول طلحة، لم يكن رفيقًا دائمًا. الرباط تمددت، تغيّرت، وتبدّلت وجوهها. تحوّل “الشارع” من مكان للتأمل إلى ساحة للاحتجاج، ومن فضاء للقراءة إلى فضاء للصراع. هل فقدت الرباط نفسها؟ أم أنها ببساطة دخلت زمنًا آخر، لا يشبه زمن الأمس؟
من ذاكرة الأفراد إلى ذاكرة المدن
النص يكشف لنا كيف يتماهى الإنسان مع المكان. تجربة طلحة في الرباط تشبه تجربة آلاف الطلبة الذين اكتشفوا عالماً جديداً بين أسوار الكليات وأحياء العاصمة. لكن السؤال: ماذا يبقى من هذا التماهي حين يعود الفرد بعد سنوات ليجد أن المدينة لم تعد كما كانت؟
هل تتحوّل المدن مثل البشر، تشيخ وتفقد بريقها، أم أن التغير ليس سوى انعكاس لتحولات المجتمع ككل؟ حين تصبح المقاهي ممتلئة بالثرثرة بدل النقاشات الفكرية، وحين تغيب المكتبات التي كانت تصنع الوعي، فهل نحن أمام أزمة مدينة أم أزمة مجتمع؟
الرباط كمرآة للمغرب
أهمية نص طلحة لا تكمن فقط في الحنين، بل في أنه يعكس صورة المغرب نفسه. الرباط التي كانت تحتفي بالثقافة، بالكتب والزهور والنقاشات، هي نفسها الرباط التي تعيش اليوم التوترات الاجتماعية والسياسية. من هنا يطرح السؤال: هل يمكن لعاصمة بلد أن تنأى بنفسها عن تحولات السياسة والاقتصاد؟
حين تتحوّل العاصمة إلى فضاء للمظاهرات، فهذا يعني أن الشارع فقد دوره التقليدي كمجال للتأمل والعيش المشترك، وأصبح منصة للتعبير عن الغضب والاحتجاج. أليس في ذلك إشارة إلى أن المغرب كله يمر بمرحلة انتقالية دقيقة؟
أزمة ذاكرة أم أزمة هوية؟
يحزن الكاتب لأن “بعض رونق الرباط قد ذبل”، لكن هذا الحزن لا يخص الرباط وحدها. كثير من المدن العربية عاشت المسار نفسه: من مدن حالمة بالحداثة والثقافة، إلى مدن تحاصرها العشوائيات والزحف الإسمنتي. السؤال الأعمق هنا:
-
هل فقدت الرباط هويتها الثقافية التي جعلتها مميزة؟
-
أم أن هذا التغير هو قدر العواصم حين تتثقل بأعباء السياسة والاقتصاد والديمغرافيا؟
-
وكيف يمكن لمدينة مثل الرباط أن تستعيد دورها كفضاء للثقافة والفكر، لا مجرد مقر للإدارة؟


