الساسي يسقط “جدار برلين” بين الأحزاب: التحول نحو الحزب الواحد والبرغماتية المهيمنة

0
155

في أروقة كلية الحقوق السويسي بالرباط، أمس الأربعاء، قدّم محمد الساسي، عضو المكتب السياسي لحزب فيدرالية اليسار الديمقراطي والأستاذ الجامعي، قراءة معمقة لمشهد التحولات التي يشهدها الحقل الحزبي المغربي، قراءة تجاوزت السطح السياسي لتفكك ديناميات القوة، التحالفات، واستراتيجيات البقاء في المشهد السياسي الوطني.

الساسي استخدم تعبيرًا صادمًا لكنه دقيق: “سقط جدار برلين المغربي”، في إشارة إلى الحواجز التاريخية بين الأحزاب التاريخية و”أحزاب الإدارة” أو ما يمكن تسميتها بالأحزاب التدبيرية. هذا السقوط لم يكن مجرد رمزي، بل يعكس اتجاه المغرب نحو حزب واحد بتلوينات متعددة، في ظل توافق واسع حول مركزية الملكية، وصعود البرغماتية، وتراجع الإيديولوجيا، وظهور منافسين غير حزبيين، وصعود القيادات الشعبوية.

من الثنائية إلى التماهي المتبادل

الساسي أوضح أن التمييز التقليدي بين الأحزاب في المغرب لم يكن قائمًا على اليمين واليسار، بل على كتلتين رئيسيتين:

  • الكتلة الأولى تضم الأحزاب التي لا تستطيع أو لا ترغب في تقديم أي موقف معارض للقرارات والسياسات الملكية، وتعتبر أن الديمقراطية لا يجب أن تكون مطبقة بكل قواعدها بسبب خصوصية المغرب الوطنية والدينية.

  • الكتلة الثانية تمثل الأحزاب التاريخية والوطنية، التي في مراحل مختلفة تشذّ عن القاعدة الأولى، وتتبنى مواقف نقدية أحيانًا تجاه السلطة، كما حدث في مواقفها من الملك الراحل الحسن الثاني، سواء في التنازلات المتعلقة بالمخطط التنموي أو في رفض بعض الاستفتاءات.

مع مرور الزمن، تلاشت هذه الفروق، وبدأت المجموعتان تتأثران ببعضهما البعض، حتى صار التماهي المتبادل قاعدة: الحزبان التاريخي والإداري أصبحا في كثير من الملفات متفقين، خصوصًا فيما يتعلق بالسيادة الملكية، وهو انعكاس مباشر لفكرة إمارة المؤمنين من جهة، وفكرة الملك كقائد المشروع التنموي أو الديمقراطي الحداثي من جهة أخرى.

من الحكم إلى التدبير: أولويات جديدة

الساسي يبرز تحولًا رئيسيًا في طموحات الأحزاب التاريخية: من الرغبة في “أول الحكم”، إلى المشاركة في الحكومة، ثم إلى التدبير. في هذا المسار، صارت المشاركة الحكومية أولوية مطلقة، بحيث يضحي الجميع بالمطالب الاستراتيجية مقابل البقاء في الحكومة، كما يظهر في مواقفهم من قضية التطبيع أو من أولويات النضال الديمقراطي.

أما “أحزاب الإدارة”، فقد تحوّلت تدريجيًا: باتت أكثر تنظيمًا، تدقق برامجها، تستفيد من الرقابة القانونية والمالية، وتجذب أطرًا عليا ومفكرين وفنانين من المدن والبوادي، وتشارك بفاعلية في النقابات والجمعيات، متخلية عن الطابع الموسمي التقليدي. هنا يتضح الفارق بين الطموح العالمي للأحزاب—تحويل البرنامج إلى برنامج دولة—وطموح الأحزاب المغربية، الذي أصبح ملاءمة برامجها مع برنامج الدولة القائم.

التحول إلى الثلاثية وصعود الفاعل الإسلامي

من الثنائية التقليدية بين الأحزاب التاريخية والإدارية، أصبح المشهد اليوم ثلاثيًا مع صعود الفاعل الإسلامي، الذي يشكل قوة أساسية في المغرب والعالم العربي، مستفيدًا من فشل المشاريع القومية والاشتراكية والليبرالية السابقة، ومن الانفتاح السياسي الغربي، وامتلاك شبكة دعوية وخيرية قوية، مع مزاعم الدفاع عن الهوية الوطنية. نقاط قوته تكمن في البساطة، ومسايرة الحس العام، والإصلاح تحت الاستقرار، بينما نقاط ضعفه تشمل التفاوت بين القيادات، والفجوة بين الخطاب النظري والواقع التنفيذي، وصعوبة التوفيق بين مقاعد البرلمان ومقاليد الحكومة.

البرغماتية والقيادات الشعبوية

خطاب الأحزاب شهد تحولًا من الخطاب الوطني والإيديولوجي إلى خطاب البرغماتية، ومن خطاب حماية الملكية إلى حماية منجزاتها و”الأوراش الملكية”. مصادر القوة أيضًا تغيرت: النجاة السياسية أصبحت مرتبطة بالقرب من النظام، بينما تراجع دور الفاعلين المجتمعيين التقليديين، وظهرت منافسات جديدة من الحراكات، التنسيقيات، والفضاء الأزرق.

القيادات الحزبية تعرف تحولات نوعية أيضًا: من القائد الوطني إلى القائد المفكر، الضروري، المؤسس، واليوم القائد الشعبوي، الذي يعتمد على خطاب المظلومية والبحث عن الشعبية، وهو انعكاس واضح لما يحدث عالميًا، لكن بخصوصية محلية مرتبطة بالخطاب السياسي المغربي وتفاعلاته مع المجتمع المدني والإعلام.

الدولة تصلح الأحزاب: انقلاب على المنطق التقليدي

الساسي أبرز تحولًا مفصليًا: الدولة باتت تصلح بنية الأحزاب، وليس العكس. فقد طالبت الأحزاب سنوات بإعمال قوانينها الداخلية، لكن النتيجة جاءت من وزارة الداخلية والقضاء لفرض الالتزام، مما يعكس انقلابًا على المنطق التقليدي لدور الحزب في الدولة، وتحول العلاقة بين القانون الداخلي للحزب والقوانين العامة.

التحالفات والانفتاح على “غير الطبيعي”

وأخيرًا، التحالفات والكتل السياسية شهدت تحولًا جذريًا: المنافسة داخل العائلة السياسية الواحدة قد تصل أحيانًا إلى الاصطدام، فيما أصبحت التحالفات التي كانت تُعتبر غير طبيعية، اليوم ممكنة ومقبولة، بل ضرورية لإدارة الحكومة الثلاثية شبه الدائمة.

خلاصة التحليل:
ما رصده الساسي هو إعادة تشكيل كاملة للحقل الحزبي المغربي:

  • من تعددية شكلية إلى توافق حول الحزب الواحد.

  • من الخطاب الوطني إلى البرغماتية، ومن القيادة التقليدية إلى الشعبوية.

  • من تصويب الدولة عبر الأحزاب إلى تصويب الأحزاب عبر الدولة نفسها.

هذا المشهد يعكس بعمق التحولات السياسية والاجتماعية في المغرب المعاصر، ويطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل الديمقراطية، ودور الأحزاب في صياغة السياسات، وقدرتها على أن تكون فاعلًا مستقلًا وليس مجرد تابع للدولة.