في الوقت الذي لا تزال فيه ندوب جائحة “كوفيد-19” ماثلة في الذاكرة الجماعية للعالم، يبرز سؤال محوري: هل استوعبت إفريقيا الدرس؟ البروفيسور خالد آيت الطالب، وزير الصحة المغربي السابق، يقدم رؤية تحليلية لواقع الصحة في القارة السمراء، معرّجًا على التحديات والفرص التي يمكن أن تحوّلها إلى قوة صحية مستقلة.
خلال مشاركته في فعاليات “الأيام الإفريقية الثالثة للاستثمار والتشغيل” بالرباط، كشف آيت الطالب عن مفارقة إفريقية مثيرة: رغم الدينامية الصحية الواعدة، تعاني القارة من تشتت الجهود بين مناطقها المختلفة، مما يحول دون بناء منظومة صحية متكاملة. فهل يمكن لإفريقيا أن تتجاوز هذا التشرذم؟
بين الإمكانات المهدورة والانقسامات المزمنة: ما الذي يمنع التكامل الصحي الإفريقي؟
في طرحه، لفت الوزير السابق إلى ما اعتبره “تشتتًا مزمنًا” للجهود الصحية بين دول إفريقيا، مشيرًا إلى أن القارة تتوزع بين مناطق لا تنسق فيما بينها بفعالية، سواء في الشمال أو الغرب أو الشرق أو الوسط. هذا التشخيص يطرح سؤالًا كبيرًا: هل التحديات الصحية أكبر من أن تُواجه بشكل قطري، وأصغر من أن تستدعي وحدة قارية فعالة؟
ما الذي يمنع الدول الإفريقية من تفعيل مؤسسات مثل CDC Africa بشكل أقوى وأكثر نفاذًا؟ ولماذا لا تزال أزمة كوفيد-19، بكل ما عرّته من هشاشة، غير كافية لتغيير المسار؟
جائحة كورونا كسرت “أسطورة القوة الصحية”… فماذا تعلّمنا منها؟
آيت الطالب لم يتردد في القول إن كورونا كانت كاشفة لـ”الوهم الصحي” الذي كانت تتباهى به حتى بعض الدول المتقدمة. فإذا كانت أنظمة أوروبية انهارت تحت الضغط، فكيف بالقارة الإفريقية التي لا تزال تعتمد، في كثير من الحالات، على دعم خارجي لتوفير اللقاحات الأساسية؟
غير أن اللافت في تحليله، هو تركيزه على مقاربة المغرب للأزمة، مستشهدًا بما أسماه “الرؤية الاستباقية لصاحب الجلالة”، عبر إحداث صندوق التضامن، ولجنة القيادة، وهيكلة اليقظة الاقتصادية. هذا النموذج، وإن كان ناجحًا وطنياً، إلا أنه يُعيد طرح السؤال: لماذا لم يُستنسخ على المستوى الإفريقي؟
الصحة كاستثمار سيادي: هل تتحول الوقاية إلى أولويّة قارية؟
من بين أهم الرسائل التي حملها الوزير السابق، تلك التي تربط بين الاستثمار في الصحة الوقائية والعائد الاقتصادي طويل المدى، مؤكداً أن “كل درهم يُستثمر في الوقاية يُوفر عشرة دراهم في العلاج”.
هذه المقاربة تستدعي تغييرًا جذريًا في فلسفة تمويل الصحة بإفريقيا. فهل نحن مستعدون سياسيًا ومجتمعيًا للانتقال من منطق “رد الفعل” إلى منطق “الاستباق والوقاية”؟ وهل تملك وزارات الصحة ما يكفي من استقلالية لتعيد ترتيب أولويات الإنفاق؟
فيروسات جديدة كل أسبوع: عبء أم فرصة لتطوير نموذج إفريقي؟
أفصح آيت الطالب عن معطى صادم: “إفريقيا تُسجل أسبوعيًا وباءً جديدًا”. من الإيبولا إلى الشيكونغونيا، باتت القارة ساحة مفتوحة للفيروسات. غير أنه يرى في ذلك فرصة لاختبار وتطوير نماذج تدبيرية ناجعة.
فهل يمكن فعلاً تحويل التحدي إلى فرصة؟ وهل يُمكن لإفريقيا أن تُصبح رائدة في أنظمة الإنذار المبكر ومقاربات التدخل السريع بدل الاكتفاء بدور المتلقي للمعونات الدولية؟
الموارد البشرية… الحلقة الضعيفة؟
في سياق التشخيص، توقف آيت الطالب عند إشكالية الموارد البشرية في القطاع الصحي، مشيرًا إلى أنها لا تحظى بالتقدير والتحفيز الكافيين. فهل المشكل في الأجور فقط؟ أم أن الأمر يتعلق بفشل أعمق في تقديم تصور جذاب لمستقبل المهن الصحية في القارة؟
الحديث عن السيادة الصحية يظل حبرًا على ورق ما لم تقترن بنهضة في تكوين الأطر، وتحفيز الكفاءات، ومنع هجرتها نحو الشمال.
الذكاء الاصطناعي والطب التنبؤي: هل تدخل إفريقيا سباق “الطب المستقبلي”؟
بعيون المستقبل، دعا آيت الطالب إلى مواكبة الثورة الطبية التي يشكل فيها الذكاء الاصطناعي وتحليل الجينوم والبيانات البيولوجية عمادًا للطب الشخصي الجديد. هذا التوجه يتطلب استثمارات ضخمة في البحث العلمي. لكن… من سيموله؟ ومن سيقوده؟
هنا يطرح الوزير سؤالاً محوريًا بطريقة غير مباشرة: لماذا لا تستغل إفريقيا مواردها الطبيعية والبشرية لبناء استقلالها الصحي بدل التبعية المزمنة للغرب والصين؟
لقاحات إفريقية من دون تنسيق؟
رغم إشادته بتقدم ثماني دول إفريقية في مجال تصنيع اللقاحات، إلا أن آيت الطالب يقر بأن غياب التنسيق والتكامل يجعل هذا التقدم هشًا. فهل تستطيع إفريقيا أن تُنتج لقاحها القاري؟ وهل تملك الجرأة لكسر “هيمنة السوق العالمية” كما فعلت دول أخرى في الجنوب العالمي؟
من اللقاءات إلى القرارات: متى ينتقل خطاب الوحدة الصحية إلى التنفيذ؟
في ختام مداخلته، دعا آيت الطالب إلى أن تكون هذه الندوة “منطلقًا لقرارات ملموسة”، وهو ما يطرح سؤالًا يتردد كثيرًا في دوائر النقاش الإفريقي: إلى متى ستظل التوصيات رهينة الندوات؟ ومتى ستنتقل إفريقيا من الكلام إلى الفعل؟
هل يمكننا تصور مؤتمر إفريقي فعلي لتأسيس “اتحاد صحي قاري” يُجسد طموح السيادة الصحية الجماعية؟
خلاصة: مستقبل الصحة في إفريقيا مرهون بإرادة السياسيين… ووعي الشعوب
ما بين خطاب الأمل والتحذير، قدّم خالد آيت الطالب رؤية تستحق أن تُدرّس في كليات السياسة الصحية الإفريقية. غير أن السؤال الأهم يظل معلقًا:
هل ستلتقط النخب الحاكمة في القارة هذه الرسائل قبل أن تفاجئنا الأزمة الصحية التالية؟