العُنصريّة المُتفاقمة ضد العرب كبّدت تركيا خسائر بـ 5 مليارات دولار هذا الصيف

0
311

تُجمع كل الديانات والشرائع السماوية والقيم النبيلة للمجتمعات على مقت العنصرية كسلوك إنساني غير سوي، بل قد تصنف العنصرية من ضمن دائرة الأمراض النفسية التي تحتاج إلى معالجة للعودة للنهج الإنساني القويم.

لم يأت هذا الإجماع من فراغ، بل إن العنصرية حاضرة وقديمة قدم البشرية، فأبو البشر آدم -عليه السلام- كان أول ضحايا العنصرية، وقد صوّر القرآن الكريم الموقف العنصري الذي تعرّض له عندما رفض إبليس السجود له بردّ إبليس {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً}!

وأشارت صحف تركية إلى أن التحريض العنصري المُفتعل من قِبَل بعض الأشخاص والأحزاب ضد العرب، تسبّب في ضربة موجعة للاقتصاد خلال آخر شهرين، مُؤكّدة أن الإجراءات الرسميّة التي اتّخذتها السلطات ضد الهجرة غير النظامية، أثرت أيضاً على الحركة الاقتصادية بشكل سلبي. وختمت قائلة بأن بعض رؤوس الأموال العربية بدأت التفكير في البدء بإجراءات رسمية لسحب استثماراتهم من تركيا.

بدورها ، نشرت صحيفة “يني شفق” مقالا للأكاديمي والكاتب التركي ياسين أقطاي يشير فيه إلى أن تصاعد حدة الخطاب العنصري وكراهية الأجانب في تركيا يعود سلبا على الاقتصاد التركي، مشيرا إلى أن هدف العنصريين لا يقتصر على خلق شعور بالكراهية ضد العرب فقط، بل يسعى بشكل أساسي إلى تحويل السياحة والاستثمارات العربية بعيدا عن تركيا.

وتوالت في الآونة الأخيرة الاعتداءات التي طالت المقيمين والسياح العرب في تركيا، كما سجلت حالة قتل لمواطن مغربي في إسطنبول إثر خلاف مع سائق تكسي، ما أدى إلى إطلاق حملات في المغرب ودول خليجية لمقاطعة السياحة التركية.

واعتبر أقطاي وهو مستشار سابق للرئيس رجب طيب أردوغان في حزب العدالة والتنمية، أن “الهجمات الإرهابية التي طالت أسواقا ومرافق عامة في مدن تركية مختلفة قبل سنوات، هدفت إلى إظهار تركيا على أنها بلد غير آمن، ما تسبب بتدمير الجهود المعاكسة التي بذلتها وزارة السياحة لدحض مثل هذه الادعاءات”.

ورأى الكاتب التركي أن “الذين وقفوا وراء تلك الهجمات كانوا يسعون إلى إلحاق الضرر بالاقتصاد عبر استهداف القطاع السياحي الذي يعد أحد أهم الروافد الاقتصادية التي تعتمد عليها أنقرة، إذ تستجيب السياحة بسرعة كبيرة للشعور بانعدام الأمن”.

وأضاف أن “الذين لم يستطيعوا تقويض السياحة بالإرهاب، وجدوا طريقة أخرى من خلال تأجيج كراهية الأجانب”، مشيرا إلى أن “الخطابات والأفعال العنصرية ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة ضد العرب، لا تبقى داخل البلاد بل تصل إلى العالم العربي”.

وأدى الخطاب العنصري المتصاعد ضد العرب إلى إلغاء كثير من الحجوزات والرحلات السياحية خلال الصيف الجاري، كما تسبب بانتقال العديد من الاستثمارات إلى الخارج ما كلف تركيا خسائر لا تقل عن 5 مليارات دولار، وفقا لأقطاي.

وفي ضوء ما سبق، تساءل الكاتب التركي عن “أوجه اختلاف الخطابات والاعتداءات العنصرية، التي كلفت تركيا مليارات الدولارات في بضعة أشهر، عما وصفه بالأعمال الإرهابية، من حيث النية والغرض”.

وشدد أقطاي على خطورة الوضع فيما يتعلق بعواقب كراهية الأجانب، وخاصة الخطاب المعادي للعرب، وذلك في نقل لمقابلات متسلسلة مع رجال أعمال سوريين، أوردتها الأكاديمية وأستاذة العلوم السياسية، زاهدة توبا كور.

وقالت كور: “في الآونة الأخيرة، ومع المبالغة في نشر الجرائم المرتكبة ضد السوريين في وسائل الإعلام العربية، أصبح ينظر إلى تركيا تدريجيا على أنها دولة عنصرية في الدول العربية”.

وأضافت أن “المواطنين الأتراك لا يدركون حجم الضرر الذي لحق ببلدهم لأن أوميت أوزداغ ورفاقه ينشرون سم العنصرية”.

ويعتبر أوزداغ، زعيم حزب النصر القومي اليميني، أحد أشد السياسيين المحرضين على اللاجئين السوريين والعرب في تركيا، سواء كانوا مقيمين أم سياحا.

وأشارت كور في حديثها إلى أن الأجانب ينهون استثماراتهم في تركيا بسبب العنصرية، ومعظمهم من التجار العرب الذين أسسوا شركات في البلاد وتوقفوا عن القدوم إلى تركيا هذا الصيف وقالوا: “أغلقوا الشركة وحساباتها لا نريد أن نأتي إلى تركيا ونقوم بأعمال تجارية مرة أخرى”.

إلى ذلك، علق كاتب المقال بأن “مجرد النظر إلى هذه الصورة يكفي لفهم أهداف الذين يحرضون بشكل غير مسؤول على كراهية الأجانب والكراهية ضد العرب”، موضحا أنهم “يسعون إلى إلحاق الضرر في الدولة التركية وشعبها بشكل أكثر خبثا من حزب العمال الكردستاني”، بحسب تعبيره.

وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أكد أن حكومته لن تسمح بتفشي العنصرية وكراهية الأجانب في البلاد، مشددا على أن “وصمة الاستعمار والعنصرية والفاشية لم تكن موجودة أبدا في أي مرحلة من مراحل التاريخ التركي”.

على مدى قرون عاش الأتراك والعرب في انسجام ووئام في كنف الدولة العثمانية إلى ما قبل قرن من الزمان، صحيح أن بينهما فروقات واختلافات شكلية في العادات ونمط الحياة والتقاليد، ولكن ما يجمعهم جوهرياً هو أكثر مما يفرقهم شكلياً، وكانت هذه الاختلافات فيما بينهم تشكل نقاط قوة وإثراء ومفتاحاً لتعدد الخيارات.

كان العرب يشكلون الإطار المرجعي والديني للأتراك، وكان الأتراك يشكلون عمقاً استراتيجياً للعرب وأقرب جيرانهم إليهم، وهكذا يفترض أن تظل العلاقات بين الشعوب. ولكن منذ أن حلّت المؤامرة على الدولة العثمانية لتفكيكها وإسقاطها واتباع سياسة فرّق تسُد بين شعوبها، عملت الجهات المستفيدة من إسقاط الدولة العثمانية على إشعال الفرقة وتأجيج العنصرية بين العرب والأتراك وبنت جدار عزل فكري بينهم، وظلت شيطنة العرب والأتراك بعضهم لبعض مستمرة من قبل الأنظمة الوليدة عن سايكس بيكو وأذرعها الإعلامية والتعليمية في البلدان العربية والنظام العلماني في الأناضول، الوليد عن اتفاقية فرساي وأذرعه الإعلامية والتعليمية.

العنصرية في تركيا

لقد تمت شيطنة العرب على مدى عقود متتالية في تركيا أنهم من خانوا الدولة العثمانية وكانوا سبب هدمها، وكذلك الحال على مدى عقود متوالية تمت شيطنة الأتراك أنهم كانوا يهينون العرب وارتكبوا بحقهم أبشع المجازر، ولذلك على مدى أجيال بُني جدار من العزلة والانغلاق والانكفاء والتوجس بين العرب والأتراك، فتوجهت تركيا نحو أوروبا، أما العرب فقد صُنعت لهم اتجاهات أخرى مزقتهم وبذرت بذور الفرقة والخلاف فيما بينهم.

منذ مطلع القرن الحالي بدأت تركيا تعود إلى حاضنتها الإسلامية وتتقارب مع عمقها وامتدادها الديني والثقافي وإطارها المرجعي الجيوسياسي العربي، فقابل ذلك بوادر انسجام وتآلف عربي تركي وبدأت الاستثمارات العربية تدخل تركيا وبدأت البضائع والصناعات التركية تتواجد في الأسواق العربية، وازدادت وتيرة السياحة بين البلدان العربية وتركيا، وبدأ عصر جديد من التكامل التركي العربي والانسجام بين الشعوب العربية والشعب التركي وتجلى هذا التناغم والتعايش الفريد في فتح تركيا حدودها أمام ملايين السوريين؛ ليجدوا ملاذاً آمناً ويعيشوا في تركيا كأنهم في سوريا ويقابَلوا بكل ود وترحاب.




ولكن يبدو أن القوى المتربصة والمتأبطة شراً بالعرب والأتراك وهي متواجدة بين العرب وبين الأتراك لم يرُق لها ذلك، وبات يؤرقها هذا التقارب والتكامل والتوحد والاندماج بين العرب والأتراك، فأبت إلا أن تمارس سياستها لنشر التشرذم وزرع بذور الشقاق والفرقة والفتنة بين العرب والأتراك، خصوصاّ أن الأرضية مهيأة لهذا، فما تم زرعه في العقول عبر عقود من الزمن ما لبث إلا أن أظهر نفسه ببشاعة عند أول امتحان تتعرّض له العلاقات التركية العربية.

شاهدنا جميعاً مقاطع لمواقف عنصرية فجة مستنكرة تجاه العرب في تركيا في مواقع التواصل الاجتماعي في الأيام الأخيرة، وهي تصرفات فردية مع تضخيمها إعلامياً ضمن أجندة خبيثة، ولكن أيضاً وجودها بهذا الشكل والتسلسل يبعث على القلق، ويؤكد أنها ممنهجة، وأن هناك جهات تقف خلفها وتعمل على إشعالها. حري بنا ويجب على كل منا أن يقوم بواجبه للحفاظ على العلاقة الوطيدة بين العرب والأتراك، ومنع تفاقم الفرقة بينهم لكي لا ينهدم جدار المودة والصفاء ويتحقق ما يصبو إليه المتربصون والمتأبطون بهم شراً.

بدأت الجالية العربية تتركز وتزداد عدداً في تركيا منذ العام 2011 لأسباب عديدة، منها ازدهار الاقتصاد التركي، وانفتاح تركيا كما ذُكر آنفاً، وأيضاً لأسباب جيوسياسية تعصف بالبلدان العربية. وطوال هذه السنوات عاش الجميع في وئام وانسجام تامين، ولكن بدءأً من سنة 2023 بدأت تتزايد العنصرية تجاههم، فلماذا الآن، وليس قبل سنوات؟