الغياب البرلماني المتكرر: سؤال الجدية في التشريع أم أزمة بنيوية في العمل التمثيلي؟

0
120

في لحظة سياسية يفترض أن تكون مفصلية، يعود مشهد غياب البرلمانيين عن الجلسات التشريعية للواجهة. جلسة يوم الثلاثاء بمجلس النواب، التي خُصّصت للتصويت على مشاريع قوانين تمسّ الحقوق الأساسية للمواطنين، عرفت غياب أكثر من 300 نائب في بدايتها. ورغم التحاق البعض لاحقًا، فإن السؤال لم يعد عن عدد المتغيبين، بل عن دلالة الغياب المتكرر، وتبعاته المؤسسية والسياسية.

فهل نحن أمام خلل عرضي في انضباط العمل البرلماني، أم أمام أزمة أعمق تتعلق بموقع المؤسسة التشريعية في النظام السياسي المغربي؟ من يقرر فعليًا في البرلمان؟ ومن يتأثر بهذا الغياب؟ ومن يستفيد من استمرار هذا النمط؟

قوانين مصيرية، وكرسي فارغ

الجلسة العامة ناقشت ثلاث مشاريع قوانين بالغة الأهمية:

  1. مشروع قانون المسطرة الجنائية في قراءته الثانية،

  2. مشروع قانون التراجمة المحلفين،

  3. مشروع قانون المجلس الوطني للصحافة.

كلها نصوص تُلامس قضايا العدالة، وضمانات المحاكمة العادلة، وتحرير المعلومة والصحافة. ومع ذلك، سُجّل غياب يكاد يُفرغ اللحظة من مضمونها.

حسب تقارير سابقة صادرة عن المعهد الديمقراطي الوطني (NDI)، يُعدّ الحضور والمشاركة النشيطة مؤشرين رئيسيين لقياس فعالية البرلمان. ووفقًا لتقرير سابق للمندوبية السامية للتخطيط، لا تتجاوز نسبة رضا المواطنين عن أداء البرلمان 23%، ما يعكس فجوة في الثقة المتزايدة.

ماذا يكشف الغياب المتكرر؟

الغياب البرلماني لم يعد مسألة انضباط فردي بل أصبح مرآةً لخلل هيكلي في علاقة النائب بوظيفته التمثيلية. ويمكن تفكيك الظاهرة عبر ثلاث زوايا أساسية:

1. أزمة مشروعية التمثيل

الغياب عن جلسات حاسمة يعمّق أزمة المشروعية التمثيلية. فالنائب يُنتخب من طرف المواطنين للقيام بدوره في الرقابة والتشريع. وعندما يغيب، من دون مبرر، عن لحظات حيوية تخص العدالة أو الحريات، فإنه لا يخذل ناخبيه فقط، بل يضعف موقع المؤسسة ككل.

2. نمط انتخابي هش

يُطرح السؤال حول الكيفية التي يُنتخب بها البرلمانيون: هل هو مشروع سياسي واضح أم توازنات محلية وانتخابوية ظرفية؟ في غياب أحزاب قوية تربط العمل البرلماني ببرامج دقيقة وآليات محاسبة داخلية، تصبح وظيفة النائب رمزية أكثر منها فاعلة.

3. غياب نظام صارم للمحاسبة

رغم وجود المادة 395 من النظام الداخلي، فإن تفعيلها ظل مناسباتيًا. الحديث عن اللجوء للكاميرات بدل تلاوة الأسماء يُعيد طرح سؤال الشفافية. هل المطلوب إحراج النائب أم حماية المواطن من تمثيل هش؟ وإذا كانت تلاوة الأسماء “تأديبًا رمزيًا”، فمتى تصبح إجراءات الاقتطاع والنشر علنية وفعالة؟

السياق الدولي: برلمانات تحت المساءلة

بالمقارنة، تعتمد برلمانات عديدة آليات واضحة لتقويم أداء النواب. في المملكة المتحدة، تنشر تقارير أسبوعية عن الحضور والمشاركة في التصويت. وفي فرنسا، يُمكن لأي مواطن أن يطّلع على أداء ممثله التشريعي بالتفصيل عبر المنصات الرسمية.

أما في المغرب، فإن غياب هذه المعلومة في المجال العمومي يعزز الانطباع بأن المؤسسة التشريعية لا تزال “بعيدة” عن رقابة المواطن. فهل نحتاج إلى مرصد وطني مستقل لتقييم أداء البرلمانيين؟ وهل يُفترض أن يبقى نظام الحوافز والتعويضات غير مرتبط بنتائج ملموسة على الأرض؟

من يُحاسب من؟ ومن يربح من هذا النمط؟

إن تكرار هذا النوع من الغياب يُرضي فقط أولئك الذين يريدون برلمانًا ضعيفًا، بعيدًا عن الفعل الجدي، يُكتفى منه بالشكليات والمراسيم البروتوكولية. في المقابل، من يخسر هو المواطن الذي لا يجد صدى لانشغالاته في المؤسسة التي انتخبها.

غياب النواب في قضايا استراتيجية يضعف الدولة المؤسساتية، ويُربك مسار الإصلاحات، خصوصًا في قضايا مثل العدالة والحق في المعلومة.

خلاصة: هل حان وقت إعادة صياغة علاقة المواطن بالبرلمان؟

إن استمرار الغياب البرلماني عن جلسات حاسمة يعمّق الفجوة بين الخطاب السياسي والواقع. وبينما تطالب البلاد اليوم بتعزيز مؤسسات الوساطة، فإن البرلمان مطالب أولاً بإصلاح ذاته. ليس من أجل المؤسسة فقط، بل من أجل إعادة الاعتبار للسياسة نفسها، في زمن تتآكل فيه الثقة وتضعف فيه الرهانات الجماعية.

السؤال الأهم: هل يكفي أن نتحدث عن تغيب النواب، أم آن الأوان لربط الحضور بالفعالية، والتعويضات بالمردودية، والموقع البرلماني بخدمة المصلحة العامة؟

الجواب لن يأتي من تقرير داخلي، بل من مساءلة خارجية، يفرضها المواطن… والصندوق.