“الفصل بين السلطة المحلية والبرلمانية: انقلاب تشريعي على تضارب المصالح”

0
164

في زمن تتداخل فيه السلطة والمصلحة، وتتعقد فيه خرائط النفوذ الترابي، يبدو أن السياسة المغربية على مفترق طرق، شرعت وزارة الداخلية في تحوّل تشريعي قد يعيد ترتيب أوراق اللعبة السياسية: تعديل القانون التنظيمي لمجلس النواب ليحد من الجمع بين المسؤوليات الانتخابية المحلية والتشريعية. خطوة تبدو بسيطة على الورق، لكنها تحمل في طياتها رسائل عميقة حول النزاهة والرقابة والتوازن بين السلطة والتنمية.

فالمادة 13 من المشروع الجديد تصنع خطاً فاصلاً بين العضوية في مجلس النواب ورئاسة أي مجلس جهة، وتمنع الجمع بين أكثر من رئاسة لمجالس الجماعات، العمالات، الأقاليم، المقاطعات، أو غرف مهنية. الهدف؟ قطع الطريق أمام “المنتخب متعدد القبعات”، ذلك الشخص الذي طالما جمع بين مواقع النفوذ الترابي والتشريعي، متيحاً له تحريك شبكة زبونية قد تؤثر على جودة التشريع وتوازن الأداء النيابي.

هل سيكون هذا التعديل نهايةً لتضارب المصالح في البرلمان؟

من داخل الوزارة، تقول مصادر رفيعة، إن المقصد هو استعادة المكانة الحقيقية للبرلمان بوصفه مؤسسة رقابية وتشريعية، وليس امتداداً لنفوذ محلي. فالتقارير السابقة أشارت إلى أن الانشغال بالتدبير الترابي أفقد بعض النواب القدرة على التفاعل مع الملفات الكبرى، وجعل حضورهم داخل المؤسسة متفاوتاً، بينما استُغلت الموارد المحلية أحياناً في الضغط السياسي والتأثير على مجريات النقاش البرلماني.

وهنا يظهر التحول الأكبر: القانون لا يكتفي بوضع قواعد تقنية للتنافي، بل يعكس فلسفة جديدة لتدبير الانتخابات، تترجم توجيهات ملكية واضحة بضرورة الشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة. ووفق المصادر، فقد استند إعداد المشروع إلى دراسات مقارنة حول أنظمة ديمقراطية تمنع بشكل صارم الجمع بين المسؤوليات المحلية والنيابية، مع الإقرار بأن هذه الإجراءات تعزز فعالية المؤسسات وتشجع على النخب البرلمانية المتفرغة.

إلى أي حد يمكن لهذه الإصلاحات أن تعيد ثقة المواطن في البرلمان؟ وهل ستنجح في تحرير المؤسسة التشريعية من ضغط شبكات النفوذ الترابي؟

المادة 14 توسّع نطاق حالات التنافي لتشمل العضوية في الحكومة، بحيث يُعلن شغور المقعد البرلماني تلقائياً حال تعيين النائب وزيراً، بينما تمنع المادة نفسها الجمع بين النيابة وأي وظيفة عمومية غير انتخابية في الدولة أو المؤسسات ذات الملكية العمومية الكبرى. وفي نفس السياق، تجبر الإجراءات الجديدة النواب على وضع أنفسهم في حالة إلحاق إداري لمنع أي تأثير غير مباشر على التشريع.

هذا الإصلاح ليس مجرد ضبط فني، بل تحوّل ثقافي في فهم الوظيفة البرلمانية، يضع حدوداً واضحة بين السلطة والتنمية المحلية، ويمنح البرلمان الفرصة للانكباب على الملفات الوطنية الكبرى، بعيداً عن ولاءات متعدّدة أو مصالح شخصية.

كما تضمنت المادة 11 بنداً رادعاً يتيح تجريد أي نائب من عضويته تلقائياً في حال صدور إدانة قضائية أو اعتقال لأكثر من ستة أشهر، في رسالة واضحة لكل من يحاول المساس بسمعة المؤسسة. بينما المواد 18 و21 تكفل متابعة حالات التنافي بدقة وتحديد آجال واضحة لإعلانات الانتخابات، بما يضمن شفافية العملية الانتخابية واستعداد متكافئ لكل الأطراف.

هل هذه الإجراءات كافية لإعادة البرلماني إلى أفقه التشريعي؟ وهل سنشهد نهاية ظاهرة “المنتخب متعدد القبعات” وعودة النزاهة إلى قاعة البرلمان؟ أم أن شبكة المصالح والولاءات ستجد طرقاً جديدة للتمدد، لتعيد صياغة المعادلة السياسية وفق منطق محلي ضيق؟

في نهاية المطاف، يبدو أن وزارة الداخلية وضعت حجر الأساس لمرحلة جديدة في الحياة السياسية المغربية، مرحلة تُعيد رسم حدود النفوذ، وتفصل بين إدارة التنمية المحلية ومهام الرقابة التشريعية، محاولةً تقديم البرلمان في صورة مستقلة ونزيهة أمام المواطنين، حيث يُصبح كل منصب مسؤولية واحدة، وواجب واحد، ونقد صريح أمام الرأي العام.