في لحظةٍ يتصاعد فيها الغضب الشعبي ويتحوّل الشارع المغربي إلى مرآةٍ مكشوفة للخيبة الجماعية، يخرج الإعلامي محمد التجيني من بروكسيل ليقولها صراحة: الوضع في المغرب كارثي. ليست الجملة مجرد توصيف، بل تشخيص موجع لبلدٍ يعيش اختناقًا بين دستورٍ معلّق وحكوماتٍ فقدت البوصلة، وشبابٍ يصرخ من الهامش دون أن يجد من يصغي إليه.
التجيني، في خطابه المتفجر، لم يكن يسعى إلى إثارة الجدل فقط، بل إلى دقّ ناقوس الخطر حول جيلٍ كامل يشعر بأنه وُلد خارج المعادلة. هذا الجيل، الذي يسميه العالم اليوم “جيل زد”، لم يعد يثق في الأحزاب ولا في النقابات ولا حتى في الجمعيات التي فقدت روحها المدنية. خرج إلى الشارع الافتراضي ثم إلى الشارع الواقعي، لا يطلب الصدقات السياسية بل يطالب بالكرامة والاعتراف والموقع في القرار.
الحكرة: عنوان الأزمة ومفتاح الانفجار
حين يتحدث التجيني عن الحكرة، فهو لا يقصد إحساسًا فرديًا بالظلم، بل مناخًا عامًا من الإقصاء الممنهج. الحكرة في المغرب اليوم ليست فقط بين المواطن والدولة، بل بين الشباب ومؤسساتٍ تُفترض أنها تمثله. فمنذ دستور 2011 الذي وعد بخلق المجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي، لم يرَ هذا المجلس النور إلا على الورق، ثم خُنق في مهدِه، وتحول من أداةٍ تشاركية إلى شاهدٍ على موت المشاركة.
هل يمكن لشابٍّ اليوم أن يصدق أن هناك مجلسًا يحمل اسمه، بينما لم يُستشر يومًا في قضاياه؟ هل يعقل أن تُبنى الدساتير لتبقى معلقة في الرفوف، فيما يُداس مضمونها تحت وقع “القرارات الفوقية” و”المهرجانات الباذخة”؟
الحكرة هنا ليست فقط في غياب العدالة الاجتماعية، بل في الاحتقار الرمزي لعقل الشباب. حين تُختزل طموحاتهم في بطاقة بنكية أو في مهرجان غنائي، فذلك يعني أن السلطة فقدت تمامًا قدرتها على الإصغاء.
وزير “الكايمينغ والسهرات”: صورة دولةٍ تتوه في الموازين
بين سطور تحليل التجيني، تطفو سخرية مرة من المشهد الوزاري. فحين يتحدث عن “وزير الكايمينغ والسهرات”، فهو لا يهاجم الأشخاص بقدر ما يفضح عقيدة الحكم التي اختزلت الشباب في جمهورٍ لمهرجان الموازين، لا في مشروعٍ وطني للتنمية.
أية دولة تلك التي تقيم مهرجانات بملايين الدراهم بينما شبابها يهاجر في قوارب الموت؟ أي منطق ذاك الذي يجعل الوزارة المكلفة بالشباب غارقة في اتفاقيات مع الأبناك لشراء المنازل، بينما 80٪ من الشباب لا يملكون حتى وظيفة أو دخلاً قارا؟
منطق الدولة اليوم، كما يقرأه التجيني، منفصل عن الواقع، يعيش في حفلاتٍ مضاءة بأموال الضرائب، ويمنح الأمل في شكل أغانٍ صاخبة بينما تتسع الهوة بين الجيل الحاكم والجيل المحكوم. إنها سخرية تقترب من العبث: حكومةٌ تتحدث عن “تمكين الشباب”، لكنها تمكّن فقط أصدقاءها ومقرّبيها في مناصب وهمية تحت لافتة “الشباب”.
المجلس الاستشاري للشباب: الجثة الدستورية
تلك المؤسسة التي بشّر بها دستور 2011، كان يفترض أن تكون منبرًا لأصوات الشباب، وحاضنةً لاقتراحاتهم، ومختبرًا لسياسات جديدة. لكنّها، كما يصفها التجيني بين السطور، تحوّلت إلى جثة دستورية تتقاسمها الأحزاب كما تُقسم كعكة السلطة.
منذ أربعة عشر عامًا على إقرار الدستور، لم نرَ لهذه المؤسسة أثرًا ملموسًا. لا تقارير، لا مواقف، لا حضور. وكأن الشباب مجرد شعار يُستعمل في الحملات الانتخابية ويُدفن بعد إعلان النتائج.
الأدهى من ذلك أن التعيينات داخل هذه المؤسسات، كما ألمح التجيني، تُوزَّع بالمحاباة الحزبية، وكأن الغاية من المجلس ليست خدمة الشباب بل خدمة الخريطة السياسية نفسها. وهكذا ضاع المعنى، وضاع معه الإيمان بفكرة الدولة كراعيةٍ للمصلحة العامة.
بين النص والواقع: دستورٌ يتنفس بالكاد
ما كشفه التجيني يتجاوز مجرد انتقادٍ إعلامي، إنه تفكيك لثنائية النص والواقع في التجربة المغربية. فالدستور، الذي صيغ على أنقاض احتجاجات 20 فبراير، وُلد محمّلًا بالآمال، لكنه اصطدم بواقعٍ سياسيٍّ يصر على التحكم. النتيجة؟ مؤسسات للحكامة بلا حكامة، ومجالس تشاركية بلا مشاركة، وحوار اجتماعي يُرفع كشعار أكثر مما يُمارس كآلية.
إنها نفس الحلقة المفرغة التي تتكرر منذ عقد: نصوصٌ براقة تُكتب باسم “الإصلاح”، ثم تُفرغ من مضمونها حين تحين لحظة التنفيذ. وفي النهاية، يصبح المواطن، وخاصة الشاب، مجرد رقم في خطابٍ رسمي أو صورة في حملة ترويجية.
الشباب بين الشارع والخذلان
جيل زد لم يعد ينتظر الفرج من فوق. إنه جيلٌ نشأ في الفضاء الرقمي، في زمن السرعة والشفافية، ولا يمكن خداعه بلغة الخشب. احتجاجاته ليست نزوة، بل نتيجة مباشرة لعقدٍ من الوعود الفارغة. حين يغيب الحوار الجاد، يملأ الشارع الفراغ. وحين تتهرب الدولة من المساءلة، يخلق الجيل الجديد قنواته البديلة — عبر “الدارك ويب” أو “الفضاء الأزرق” كما قال التجيني، وهي رمزية قوية تعني أن الشباب اختار الهامش ليقول كلمته بعدما صودرت منه المنابر الرسمية.
وهنا تطرح “المغرب الآن” سؤالها الجوهري: هل يمكن لدولةٍ تتحدث عن “التمكين” أن تمكّن فعلًا من لا تثق في وعيه؟ هل يمكن أن تنجح سياسات الشباب في ظل وزراء يرون فيهم جمهورًا للحفلات لا شركاء في التغيير؟
خطاب التجيني… صرخة أم إنذار؟
في العمق، لم يكن التجيني يهاجم الحكومة بقدر ما كان يعرّي حالة الجمود البنيوي التي أصابت علاقة الدولة بالشباب. كلماته، وإن بدت غاضبة، كانت تحمل مشروعًا ضمنيًا: استعادة المعنى المفقود في السياسة.
لكنه في الوقت ذاته يوجّه سهام النقد إلى جيل السياسيين الذين احتكروا الكراسي والمناصب، ولم يسمحوا بتجديد النخبة. بل إن بعضهم، كما قال، “لا يترك المنصب إلا بالموت”. هذه الجملة ليست مبالغة، بل مرآة تعكس واقعًا مُرًّا، حيث تحوّلت مؤسسات الدولة إلى فضاءات مغلقة، تحكمها الولاءات لا الكفاءات، وتعيد إنتاج نفس الوجوه مهما تغيّرت الحكومات.
من الحكرة إلى السخرية… والبلد على صفيح ساخن
ما أراد التجيني قوله بلغةٍ لاذعة هو أن الاحتجاجات الشبابية الأخيرة ليست طارئة، بل هي نتيجة تراكم “الحكرة” السياسية والاجتماعية والثقافية عبر سنوات من التجاهل والتغليط الإعلامي. حين يتحدث عن “وزير الكايمينغ والسهرات”، فهو يصف نموذجًا لا شخصًا — نموذج السلطة التي فقدت حسّ الأولويات، فاستبدلت الخبز بالأضواء، والعدالة بالفرجة.
إنها دولة يبدو أنها لم تتعلم شيئًا من حراك 2011، ولم تفهم بعد أن جيل اليوم لا يُشترى بالمهرجانات ولا يُسكت بالخطابات. جيلٌ يرى في صمته موتًا بطيئًا، وفي صرخته خلاصًا جماعيًا.
خلاصة “المغرب الآن”:
خطاب التجيني ليس مجرد “تصريح ناري”، بل مؤشر على انفجار ثقافي جديد في علاقة المغاربة بالسلطة، حيث أصبح النقد العلني والمباشر من الخارج (من بروكسيل أو باريس أو مدريد) أكثر جرأة وصدقًا مما يُقال من داخل البلاد. إنها مرحلة جديدة من المواجهة الرمزية بين شبابٍ يبحث عن وطنٍ يسمعه، وسلطةٍ غارقة في لغة التسويق السياسي.
المغرب اليوم أمام مفترق طرق: إما أن يُنصت إلى صرخات جيله الجديد بجدية، أو أن يواصل رقصته على إيقاع المهرجانات… إلى أن يُطفئ الشارع الأنوار.