“الملك سمع جيل زد… لكنه أجاب بلغته الخاصة”

0
286
و م ع

مساء الجمعة، كانت أنظار الشباب متجهة نحو البرلمان، مترقبة كل كلمة، كل إشارة. بعد الرسائل التي وجّهوها للملك، بدا الكثيرون مستعدين لتلقي تجاوب مباشر. لكن الخطاب جاء هادئًا، محافظًا، يميل إلى الرموز أكثر من الكلمات الصريحة. هنا تباينت القراءات: البعض شعر بخيبة أمل أولية، بينما قرأ آخرون في هذه الهدنة اللغوية مؤشرًا ضمنيًا على أن الدولة استوعبت مطالبهم، وإن بصمتها الخاصة.

جيل “زد” في المرآة الملكية

جاء الخطاب في توقيت حاسم، قبل أيام من انتخابات جديدة، وكأن المملكة تحاول إرساء توازن دقيق بين ما تحقق خلال الولاية الماضية وما ينتظر المرحلة المقبلة. المراقبون لاحظوا بوضوح رغبة الخطاب في إعادة النقاش من الشارع إلى المؤسسات، رسالة غير معلنة مفادها: الدولة تسمع، لكنها تختار أن تُجيب ضمن أطرها الرسمية. هنا بالذات تتجلى فلسفة التواصل: الاستماع لا يعني الموافقة الصريحة، لكنه بداية لفهم متبادل بين الحاكم والمواطن.

تقييم مرحلة وبوصلة جديدة

الخطاب لم يكن تقنيًا فقط، بل استراتيجيًا. فهو جاء في نهاية ولاية تشريعية، ما منحه بعدين متداخلين: تقييمي لإنجازات الحكومة والبرلمان، وتوجيهي يرسم خطوط المرحلة المقبلة. في هذا الإطار، بدا الملك كمن يعيد ترتيب طاولة النقاش الوطني، مذكّرًا الجميع بأن التحدي لا يكمن في الشعارات، بل في النتائج الملموسة.

وقد شدّد الملك على مبدأ التوازن بين التنمية الاقتصادية والمجالية، في إشارة إلى الانتقادات المتكررة التي وُجهت إلى المشاريع الضخمة التي تُعطي أولوية للبنى الرياضية والعمرانية على حساب التعليم والصحة. قوله إن “لا تناقض بين المشاريع الوطنية الكبرى والبرامج الاجتماعية” لم يكن تفصيلاً لغويًا، بل تصحيحًا لمسار في السياسات العمومية.

مشكل التواصل: حين تتحدث الدولة ولا يُسمع صوتها

من بين النقاط اللافتة في الخطاب، تلك الدعوة الصريحة إلى تحسين التواصل بين المؤسسات والمواطنين. قال الملك إن “توعية المواطنين بمبادرات السلطات العمومية والقوانين التي تمس حياتهم هي مسؤولية مشتركة”. جملة بسيطة في ظاهرها، لكنها تختصر مأزقًا سياسيًا عميقًا: الدولة تنجز، لكنها لا تُقنع.
لقد تحوّل ضعف التواصل إلى أزمة ثقة، حيث يشعر المواطن — خصوصًا الشباب — أن القرارات تُصنع في عوالم بعيدة عن همومه اليومية.

لغة الرسائل غير المعلنة

ورغم غياب الإشارة الصريحة إلى “جيل زد”، إلا أن الخطاب بدا موجّهًا إليه. فالدعوة إلى تسريع خلق فرص العمل وتحسين الخدمات الصحية والتعليمية لم تكن مجرّد بنود تنموية، بل إجابات جزئية على مطالب الشارع. لكنّ طريقة العرض الهادئة جعلت بعض الشباب يرون في الخطاب “تأجيلاً للحوار”، لا “فتحًا لباب التواصل”.

هنا يتجلى عمق المفارقة: كيف يمكن للدولة أن تُخاطب جيلاً وُلد في زمن السرعة الرقمية، بلغة بيروقراطية بطيئة الإيقاع؟

العدالة والمحاسبة والتعبئة: ثلاثية المرحلة

ركّز الخطاب على ثلاثة محاور أساسية تُشكّل ملامح “الجيل الجديد من التنمية الترابية”:

  1. العدالة الاجتماعية والمجالية كرهان مصيري يعيد التوازن بين المركز والهامش.

  2. ثقافة النتائج بدل منطق الوعود، كتحوّل في فلسفة الحكم والإدارة.

  3. التعبئة الجماعية كشرط للنجاح، في انسجام مع مبدأ “ربط المسؤولية بالمحاسبة”.

هذا الثلاثي ليس جديدًا في الخطاب السياسي المغربي، لكنه اكتسب هذه المرة نغمة أكثر حسمًا، تعكس قناعة بأن الإصلاح لا يُؤجَّل بعد اليوم.

ما بين الواقعية والصرامة

الملك بدا واضحًا حين تحدّث عن “نجاعة الاستثمار العمومي ومحاربة هدر الزمن والموارد”. فالمسألة لم تعد تقنية، بل سياسية بامتياز. هناك وعي بأن بطء الإنجاز أصبح عبئًا على ثقة المواطن. لذلك، عاد الحديث عن “جيل جديد من السياسات الترابية” كمشروع يتجاوز أجندة الحكومة نحو رؤية ملكية طويلة المدى.

الرسائل إلى الفاعلين: تذكير لا توبيخ

على المستوى العملي، وجّه الخطاب رسائل دقيقة إلى مختلف الأطراف:

  • الحكومة: مطلوب منها التسريع لا التبرير، التنفيذ لا التبرئة.

  • البرلمان: ولايته الأخيرة ليست مناسبة لحسابات انتخابية، بل لاختبار النجاعة.

  • الأحزاب: مطالبة باستعادة ثقة الشباب وتأطيرهم بدل الاكتفاء بلغة البيانات.

أما الرسالة الخفية، فكانت موجهة إلى “جيل زد” نفسه: الملك سمع، لكنه اختار أن يرد بلغة الدولة، لا بلغة الشارع. إنها استجابة هادئة، لكنها تفتح الباب أمام اختبار جديد للثقة.

الجيل الجديد من التنمية: من الجغرافيا إلى العدالة

في الجانب التنموي، وضع الخطاب خريطة أولويات دقيقة: سياسات خاصة بالمناطق الجبلية والواحات، تفعيل قانون الساحل، وإعادة تأهيل المراكز القروية لتقريب الخدمات. هي رؤية تسعى إلى تقليص الهوة بين “المغرب المفيد” و“المغرب العميق”، عبر ما سمّاه الملك “الجيل الجديد من التنمية الترابية” — مفهوم يجمع بين العدالة الجغرافية والاجتماعية في مشروع وطني واحد.

خاتمة: ما بعد الخطاب

بين من رأى في الخطاب الملكي تجاوبًا مؤسساتيًا مع المطالب الاجتماعية، ومن شعر بخيبة أمل لغياب اللغة المباشرة، يبقى السؤال معلقًا: هل سيحوّل جيل زد صوته إلى فعل؟

الكرة الآن في ملعب الشارع، لا لتصعيد جديد، بل لاختبار جديد للإنصات. فالدولة فتحت باب التأويل، لكنّ الشباب هو من سيقرر إن كان هذا الباب يقود إلى حوار فعلي — أم إلى صمت آخر مؤجل.