في زمن تحركه الأحداث الكبرى، يبرز الملك محمد السادس ليس كزعيم يسعى وراء المكاسب اللحظية، بل كمعمارٍ للتاريخ، يصوغ واقعاً جديداً لمغربه والمنطقة بأبعاد استراتيجية تتجاوز الخطاب التقليدي للصراعات. إن الدعوة التي وجّهها الملك، الأربعاء الماضي، إلى صحراويي تندوف، ليست مجرد نداء سياسي، بل لحظة فارقة تُعيد التفكير في مفهوم المواطنة والوحدة الوطنية.
يطرح الملك محمد السادس، في هذا السياق، نموذجاً للحكم الذاتي يُنهي استحالة الانفصال ويحوّلها إلى فرصة حقيقية للمواطنين أنفسهم. لكنه، في الوقت ذاته، يطرح سؤالاً جوهرياً أمام كل مغربي: هل نحن مستعدون لإعادة احتضان أبنائنا من مخيمات تندوف، ليس فقط بصفته إنسانياً، بل بوصفه خطوة نحو مشروع وطني موحد ومستقبل تنموي مشترك؟ وما الذي يتطلبه ذلك من التزامات متبادلة لإرساء العدالة والمساواة بين جميع المواطنين؟
وعلى الصعيد الإقليمي، يدعو الملك المفدى حفظه الله ورعاه إلى عبد المجيد تبون إلى حوار أخوي صادق، متجاوزاً لغة التوتر والصراع المستمر بين المغرب والجزائر. هذه الدعوة، التي تتماهى مع الطموح المغربي لإحياء الاتحاد المغاربي، تطرح بدورها سؤالاً جوهرياً: هل يمكن لدبلوماسية صادقة وشجاعة أن تُعيد بناء جسور الثقة بين جارين يتشابك تاريخهما السياسي والاجتماعي؟
وفي سياق متصل، جاءت الرسالة الملكية مساء الجمعة لتعكس بعداً دولياً آخر. لقد وجّه الملك شكره للقوى الكبرى، الولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا، والمملكة المتحدة، وإسبانيا، وروسيا، والاتحاد الأوروبي، على دعمهم لمبادرة الحكم الذاتي، معتبرًا هذا الدعم خطوة نحو استقرار طويل الأمد وليس انتصاراً على أحد. هنا أيضاً يبرز سؤال تحليلي: كيف يمكن للمغرب أن يستثمر هذا الاعتراف الدولي لصالح التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الأقاليم الجنوبية، دون أن تتحول المكاسب السياسية إلى تناقض مع التطلعات الشعبية؟
الرسالة الملكية تحمل أيضاً بعداً أخلاقياً وإنسانياً. فهي تؤكد أن المغرب لا ينظر إلى التحولات الأخيرة كمسألة انتصار على جارة أو خصم، بل كفرصة لإرساء السلام وبناء فضاء مغاربي متكامل، حيث يسود الاحترام المتبادل وروابط الأخوة وحسن الجوار. وهو ما يجعل التاريخ شاهداً على قيادته التي لا تكتفي بالمناورة السياسية، بل تمتد لتشكل رؤية شاملة لمستقبل المنطقة.
الملفت في هذا الإطار هو الرؤية المتكاملة التي يجمع فيها الملك بين الأبعاد الداخلية والخارجية، السياسية والاقتصادية، الوطنية والإقليمية. إنه يقترح نموذجاً للحكم لا يكتفي بالتصريحات الرسمية، بل يضع أساساً للتفاعل الاجتماعي والتنمية المستدامة، بحيث يُعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، وبين المغرب وجواره الإقليمي والدولي.
في النهاية، يترك الملك محمد السادس للقارئ والمتابع سؤالاً مفتوحاً: هل يمكن لهذه اللحظة التاريخية، التي تجمع بين الحكمة الدبلوماسية والبعد الإنساني، أن تكون بداية فصل جديد من الوحدة والاستقرار، أم أنها ستظل مجرد فرصة ضائعة في خضم الصراعات الإقليمية؟