في السنوات الأخيرة، تحولت قضية المهاجرين المنحدرين من دول إفريقيا جنوب الصحراء إلى إحدى أعقد المعضلات الاجتماعية والسياسية التي يواجهها المغرب. فبينما تقدّم الرباط نفسها كبلد عبور وشريك استراتيجي للاتحاد الأوروبي في ملف ضبط الهجرة، تعيش القرى والمدن الصغيرة المغربية مشاهد يومية لا تقل خطورة عن أزمات الغذاء والسكن والعمل.
المشهد هنا لا يتعلق فقط بالهجرة غير النظامية، بل يتعداها إلى خلل بنيوي في إدارة ملف بشري حساس، حيث تتقاطع الأبعاد الأمنية بالاقتصادية، وتتداخل الاعتبارات الإنسانية بالضغوط الدبلوماسية، في وقت يزداد فيه الاحتقان الاجتماعي المحلي تجاه وجود المهاجرين، وسط صمت رسمي يثير الريبة أكثر مما يبعث على الطمأنينة.
من الشوارع الخلفية إلى واجهة المدن – يوميات المهاجرين بين invisibilité ورفض معلن
يكفي أن تتجول في أحياء مثل “السويسي” بالرباط، أو محطات القطار في فاس وطنجة، أو الأسواق الأسبوعية في المدن الصغيرة كخنيفرة وتازة، حتى تكتشف حجم التغير الذي تعرفه البنية الديموغرافية. آلاف المهاجرين، أغلبهم شباب، ينتشرون في الساحات والطرقات، يبيعون بضائع بسيطة أو يعيشون على المساعدات.
غير أن ما يبدو مجرد “حضور بشري” يخفي خلفه تحديات أمنية واجتماعية متراكمة:
-
ارتفاع حدة التوتر مع الساكنة المحلية، التي تشعر بأن الخدمات الصحية والاجتماعية المحدودة أصلاً باتت مثقلة بما يفوق طاقتها.
-
ظهور شبكات موازية للاقتصاد غير المهيكل، يقودها أحيانًا مهاجرون يستغلون هشاشة الوضع للسيطرة على تجارة معينة (بيع الهواتف المستعملة، بعض الخدمات اليدوية).
-
تنامي المخاوف من تحول بعض الأحياء إلى “غيتوهات مغلقة”، بما يشبه النماذج التي عرفتها ضواحي باريس وبروكسيل في العقود الماضية.
هذه المؤشرات تعكس أن المغرب، دون أن يعلن، بصدد التحول من بلد عبور إلى بلد استقرار قسري للمهاجرين، وهو تحول لم يتم التحضير له لا على مستوى التشريعات ولا على مستوى البنيات التحتية.
الدعم الدولي – بين الخطاب الحقوقي والرهان الأمني
منذ 2013، أطلق المغرب برامج لتسوية أوضاع آلاف المهاجرين بدعم من الاتحاد الأوروبي، الذي يرى في المملكة “شرطي الحدود الجنوبية” للقارة. لكن خلف شعارات “الاندماج” و”التعاون”، يظل التمويل الأوروبي مشروطًا بهدف وحيد: تقليص تدفقات الهجرة نحو الشمال.
الاتحاد الأوروبي يضخ ملايين اليوروهات في مشاريع التدريب والتأهيل، لكنه في الواقع يضمن بقاء المهاجرين داخل الأراضي المغربية بدلًا من وصولهم إلى سبتة ومليلية أو السواحل الإسبانية. وهنا يطرح السؤال المركزي:
هل المغرب شريك حقيقي في مقاربة تنموية إنسانية؟ أم مجرد حلقة في سلسلة أمنية غايتها حماية الحدود الأوروبية؟
المفارقة أن هذه الأموال لا تُترجم إلى تحسين ملموس في حياة المهاجرين ولا في حياة المواطنين المغاربة، بل غالبًا ما تذوب في ميزانيات فضفاضة، أو تُصرف في ندوات ومشاريع تجريبية محدودة الأثر. النتيجة: إحساس متزايد عند الطرفين – المهاجر والمغربي – بأنهم مجرد أدوات في لعبة دولية لا تراعي كرامتهم ولا حقوقهم.
قرى ومدن صغيرة تحت الضغط – هشاشة مضاعفة
إذا كان الوجود المكثف للمهاجرين في المدن الكبرى يجد تفسيره في قربها من شبكات النقل الدولي، فإن نقل مجموعات من المهاجرين إلى القرى والبلدات النائية بات يثير جدلاً عميقًا.
فقد عمدت السلطات في أكثر من مرة إلى توزيع المهاجرين على مناطق داخلية مثل تيفلت، مريرت، أو قصبة تادلة، في محاولة لتخفيف الضغط عن طنجة والرباط. غير أن هذا الخيار يُنظر إليه محليًا كـ”ترحيل قسري داخلي”، يزيد من اختلالات الأمن الغذائي والاقتصادي لتلك المناطق.
-
سكان هذه القرى يعيشون أصلاً على حافة الفقر، ومع ضعف البنية الصحية والتعليمية، يصبح مجرد استقبال عشرات المهاجرين كافيًا لخلق حالة احتقان.
-
الجمعيات المحلية، رغم مجهوداتها، لا تمتلك القدرة المادية ولا التكوينية لمواكبة هذه التحولات.
-
المهاجرون أنفسهم يجدون أنفسهم معزولين عن شبكات الدعم، بلا فرص عمل أو اندماج حقيقي.
النتيجة: دوائر توتر اجتماعي جديدة، لا تنقل فقط الأزمة، بل تعممها على نطاق جغرافي أوسع.
الخطاب الرسمي وصمت مكلف
من المثير أن الحكومة المغربية لا تقدم أي أرقام رسمية دقيقة حول أعداد المهاجرين جنوب الصحراء، ولا عن حجم التمويل الدولي الموجه لتسيير هذا الملف. الصمت يترك المجال مفتوحًا أمام الإشاعات، ويعمّق فقدان الثقة بين المواطنين والسلطات.
المفارقة هنا أن المغرب في المحافل الدولية يرفع شعار “سياسة هجرة إنسانية”، ويستشهد ببرامج التسوية والإدماج، لكنه على الأرض يطبق مقاربة هجينة: قمع عند الحدود، تساهل في المدن، وتوزيع عشوائي في القرى.
هذا الغموض يطرح أسئلة مشروعة:
-
هل يخشى المغرب الاعتراف بأنه تحوّل إلى “مخيم كبير” للمهاجرين بضغط أوروبي؟
-
هل يملك فعلًا استراتيجية وطنية متماسكة للهجرة، أم أن الأمر لا يتعدى “ردود فعل ظرفية” لتسكين قلق الشركاء الدوليين؟
البعد الاقتصادي – من عبء إلى فرصة ضائعة
لا شك أن وجود آلاف المهاجرين يؤثر على سوق العمل الهش أصلًا في المغرب. المنافسة على المهن البسيطة (البناء، الفلاحة، الخدمات المنزلية) تخلق توترًا مباشرًا مع اليد العاملة المحلية. لكن من جهة أخرى، يمكن النظر إلى هذا الوجود كفرصة لوضع سياسات إدماج إنتاجية، على غرار ما فعلته دول مثل كندا أو ألمانيا.
إلا أن غياب الرؤية يحوّل الإمكان إلى عبء:
-
لا برامج جدية لتعليم اللغة أو التأهيل المهني الموجه للمهاجرين.
-
لا آليات لمراقبة سوق العمل ومنع استغلالهم في “العمل الأسود”.
-
لا شراكات حقيقية مع بلدانهم الأصلية لخلق جسور اقتصادية متبادلة.
بذلك، يظل المهاجرون عالقين في “منطقة رمادية”، عاجزين عن الاندماج، ومرفوضين من طرف الساكنة، بينما تضيع على المغرب فرصة الاستفادة من طاقات بشرية قد تساهم في التنمية إذا أُحسن توظيفها.
الدروس الغائبة والمخاطر المقبلة
المغرب ليس أول بلد يواجه هذا التحدي. التجارب الدولية تثبت أن إدارة الهجرة لا يمكن أن تُبنى على المقاربة الأمنية وحدها. فرنسا نفسها، رغم إمكاناتها، تعاني من عزلة مهاجري ضواحيها. إيطاليا واليونان تحولتا إلى “مخازن بشرية” باتفاقيات مع الاتحاد الأوروبي.
اليوم، المغرب يكرر نفس الأخطاء، لكن في سياق أكثر هشاشة:
-
بنية تحتية ضعيفة في الصحة والتعليم.
-
معدلات بطالة مرتفعة خاصة بين الشباب.
-
أزمة ثقة متفاقمة بين المواطنين والدولة.
كل هذه العناصر تجعل من ملف المهاجرين قنبلة اجتماعية موقوتة. فإذا لم يتم التعامل معه برؤية استراتيجية بعيدة المدى، فإن القادم سيكون أشد تعقيدًا: توترات عرقية، جرائم منظمة، وربما عزل دولي إذا تفجرت الأوضاع بشكل مأساوي.
خاتمة: نحو رؤية بديلة
القضية ليست “رفضًا للمهاجرين” ولا “تخويفًا من الآخر”، بل دعوة صريحة لإعادة النظر في السياسات العمومية. المطلوب هو:
-
شفافية في الأرقام والمعطيات، حتى يعرف المواطن والمجتمع الدولي حجم التحدي الحقيقي.
-
مأسسة الدعم الدولي، بحيث يوجَّه مباشرة إلى مشاريع تنموية محلية تستفيد منها الساكنة والمهاجرون معًا.
-
استراتيجية إدماج إنتاجية، تركز على التعليم والتكوين وربط المهاجر بسوق العمل المنظم.
-
إشراك المجتمع المدني، مع تعزيز موارده ليكون فاعلًا حقيقيًا لا مجرد وسيط رمزي.
-
خطاب رسمي صريح يضع المواطنين والمهاجرين أمام حقيقة الخيارات المتاحة، بدل الاكتفاء بالشعارات.