“باب دارنا” أو “مادوف” المغربي.

0
304

الكاتب: عبد الله رشاك (*)

من سمع منكم عن “بيرني مادوف”؟ مات الشخص هذا 14 أبريل 2021 في سجن أمريكي، حيث كان من المفترض أن يقضي عقوبة 150 سنة سجنا، مع احتمال أن يستفيد من عفو سنة 2139 ميلادية!

ما ذنب هذا الرجل، وماذا جنت يداه حتى يستحق هذا الحكم القاسي الذي قد يلائم عصر أعمار قوم نوح وأمثالهم؟

“مادوف” هذا، هو بنكي يهودي أمريكي شهير، قام بأكبر عملية احتيال في المجال المالي والمصرفي، في تاريخ أمريكا، أدت إلى الانهيار الكبير والأزمة المالية العالمية لسنة 2008. مارس هوايته، بكل أمان منذ ثمانينيات القرن الماضي. كان لا يستثمر دولارا واحدا مقابل الأموال التي يتلقاها من المودعين، بل كان يرد ديونه للدائنين من الودائع الجديدة، تطبيقا لما يعرف ب”هرم بونزي” Pyramide de Ponzi ظل صاحبنا على هذا النهج الاحتيالي في تعامله مع الزبناء إلى أن حلت أزمة الرهون العقارية mortgage بالولايات المتحدة الأمريكية،حينها هرع المودعون لاسترجاع أموالهم لدى “بيرني مادوف”؛ فكانت الحقيقة التي ظل يخفيها عنهم: إفلاسه المخفي بمكر ودهاء، وتدوير أزمة مديونيته باستقبال أموال دائنين جدد، لأداء ديونه الحالة créances échues.

ما كان ليكتشف أمر هذا المحتال العالمي لولا حلول أزمة الرهون العقارية، وانتشار شظاياها إلى كافة أرجاء العالم الرأسمالي.

كان فقيدنا المصرفي والبنكي الجهبد هذا، مطلعا على دقائق شبكات البنوك والمصارف وخبيرا بقوانينها وأنظمتها وتشعباتها المعقدة، وعوض الالتزام بحدودها الدنيا، اقتداء بالرئيس المهزوم “دونالد ترامب”، لجأ “مادوف” إلى النصب والاحتيال الصِّرف بدون مواربة.

وقد اعترف أثناء محاكمته بكل جرائمه في تدبيره المالي والمصرفي خلال عقود ظل فيها يغترف من أموال المودعين المغفلين بثقتهم في اسم كان يبدو كبيرا وموثوقا به في ميدان اختصاصه.

لعل من حسنات اكتشاف نصب من حجم هذا الديناصور البنكي هو أن الولايات المتحدة الأمريكية ومؤسساتها المختلفة، تشريعية وتنظيمية وضبطية، تدخلت بقوة لتنظيم هذه المجالات، ووضعت متاريس ومحاذير كثيرة للحيلولة دون تكرار مثل هذه الأزمات التي تهدد، من عشرية لأخرى، بنسف بنيان النظام الرأسمالي الذي أُسس على اتفاقيات بريتن وودز Bretton woods سنة 1945 بالولايات المتحدة الأمريكية.

فماذا يمثل بطل “باب دارنا” في حالتنا المغربية؟!!

وإذا كانت لا تجوز المقارنة مع وجود فارق في الحالتين، فإن الفرق في الشدة، لا في طبيعة العمل المدان، intensity لا في طبيعة التوتر والدمار الذي طال مئات الأشخاص والعائلات في أموال طائلة، كدّوا سنوات لتحصيلها.

وإذا كان القانون لا يحمي المغفلين، كما هو شائع، وألا أحد يعذر بجهله بالقانون، فكيف انطلى المكر والخديعة على شرائح من المجتمع، متعلمة بل ومطلعة على القوانين بحكم وظائفها؟

لا شك أن للأمر علاقات متداخلة، من إتقان للعبة النصب زاد من إتقانها بهارات الإشهار المتنوع وفي قنوات رسمية، ومشاركة “البطل” في فعاليات مهرجانات العقار رسمية. ولعل هذا مما عطل العقل والمنهج الديكارتي والفلسفي لدى شرحة مهمة من الناس، إذ ارتكن الجميع إلى كسل اليقينية المرئية دون تمحيص وتقليد السباقين والسابقين.

وهذا العنصر النفساتي يكون قد لعب دورا مهما لدى المواطنين المتهافتين على اقتناص “فرصة العمر”، مع التنبيه مجددا إلى أن عصر “الهمزات” قد ولى منذ زمن. نفس السلوك الجماعي والتشبع أو التأثر بعقلية جموع “التابعين” او السلوك الجمعي comportement grégaire قد تكون وراء اتخاذ قرارات غير معقولة، وبدون إعمال العقل في أمور مهمة كاقتناء العقار، باعتماد على تقليد سلوك الآخرين، اطمئنانا إلى وضعياتهم الاجتماعية أو المهنية: لأن محاميا أو قاضيا أو طبيبا أو مهندسا، غيرهم فعلها، فهؤلاء لا يمكن أن يكونوا كلهم مخطئين في اختيارهم هذا ! هذه حجة مبنية على الذات، وليس على موضوع الاقتناء، أي دون تفكيك خطاب الترويج التجاري وسلك الطرق القانونية للتأكد من العروض العقارية، ليس أقلها مراجعة مصلحة المحافظة العقارية والمصالح التي يأتي على ترويجها أمثال “مادوفنا” المغربي في لوحاته الإشهارية المنتصبة في عدة أماكن..

وستبقى قضية “باب دارنا” تسائلنا جميعا بأسئلة بسيطة: كيف استطاع هذا “المادوف” أن يخدع هذا العدد الكبير والمتنوع من الضحايا من كل الفئات الاجتماعية والأعمار، وأن يخل بقانون الالتزامات والعقود، وبخاصة الفصلين الثاني و478؟

ماذا كان موقف السلطات العمومية الخصوصية المختلفة، وكيف تعاملت مع هذا الملف الشائك في مختلف أطواره؟!!

ألا يوجد من بينها أشخاص متوافقون، إن لم نقل متواطئين مع صاحب المشروع الوهمي، كل حسب مصلحته؟ وإلا بما يتم تفسير اتساع أعداد المنصوب عليهم الذين كسِّرت حصالاتهم tirelires المالية أداة نصب واحدة، استفادت من سياق الانحسار العقاري الظرفي؟!

أين ذهبت أعين المراقبين والمتلصصين المبلغين عن مواطنين بسطاء قاموا ببناء غرفة عشوائية في السطح أو فتح شباك خلفي، مع اتخاذهم كافة الإجراءات الاحترازية؟

لماذا لم تشتعل مصابيح الإنذار الحمراء، ولا انتبه حراس معبد الاستثمار العقاري، وما أكثرهم، والمنصوص عليهم في أكثر من قانون ونظام؟!

لماذا عجز القانون الجنائي عن كبح جماح مقترفي مثل هذه العمليات العقارية الوهمية، رغم فصوله الصارمة؟

ألا يكمن العطب في اعتقاد أو توهم غياب المحاسبة والمساءلة عند مرتكبي هذه الجرائم، التي يصعب تصور حدوثها دون وجود أطراف متعاونة أو متساهلة، في ظل ضآلة أحكام رادعة سابقة؟!

هذا ما سوف تسفر عنه الأبحاث القضائية الجارية، التي لا تستطيع لوحدها الحد من مثل هذه السلوكات الضارة بالاقتصاد والمجتمع وبسمعة البلاد.

وعسى أن تكون هذه القضية درسا نستفيد منه جميعا، أفردا بتوخي الحذر واتباع طرق الاستقصاء القانونية وغيرها..

أما بالنسبة للجماعات الترابية، والسلطات الترابية المخلفة، والمؤسسات العمومية والخصوصية، فإن مسؤوليتها قائمة في مراجعة القوانين والأنظمة والمساطر، وتبسيطها للعموم ومراقبة كيفية إنزالها لأرض الواقع، لأن من واجبها الوظيفي قبل الأخلاقي، حماية المواطنين في كافة مجالات الحياة، بالأخص اقتناء قبر الحياة في ظروف ملائمة وبدون “مادوف” مغربي آخر، قد يدفع بعضهم إلى قبر الآخرة، كمداً وحسرة على ضياع قبرهم الأول.

إطار ومسؤول سابق بالوزارة، وكاتب وطني سابق لنقابة السكنى والتعمير وإعداد التراب الوطني