بعد سنة القطيعة: وزير فرنسي منتدب يزور المغرب الاولى بسبب ازمة سياسية صامتة

0
147

ظهور مؤشرات خلافات بين باريس والرباط حول ملفي التأشيرات والتجسس لا يبدو كافيا لفهم درجة البرود الذي تشهده علاقات البلدين، ما يرجح برأي محللين وجود ملفات خلافية أخرى أكثر حساسيّة وعمقا في بنية العلاقات وتداعياتها مستقبلا.

يحل بالمغرب اليوم، الوزير الفرنسي المنتدب المكلف بشؤون التجارة الخارجية والاستقطاب ، أولفييه بشت، في زيارة رسمية تستمر ليومين بهدف ” تعزيز الشراكة الثنائية بين فرنسا والمغرب، شريكها الاقتصادي طويل الأمد، خاصة في مجال النقل والطيران”،  وفقا لبلاغ لوزارة الخارجية الفرنسية.

 وسيجري الوزير الفرنسي، في أول أيام زيارته ، مباحثات ، الوزير المنتدب المكلف بالاستثمار والالتقائية وتقييم السياسيات العمومية، محسن جزولي ووزير الصناعة والتجارة ، رياض مزور،  ولقاء عدد من المستشارين الفرنسيين المقيمين بالخارج.

 وسيخصص الوزير ثاني ايام زيارته للمغرب ، الأربعاء، بزيارة غرفة التجارة والصناعة الفرنسية بالمغرب، وثانوية “ليوطي”. فيما سيتناول وجبة الإفطار يوم الخميس  مع بعض المستثمرين،  ويفتتح منتدى الأعمال التجارية “Choiseul Africa”، ومعهد مهن الطيران، وشركة “Safran Nacelles” للصناعات الجوية.

 وتعد هذه الزيارة الاولى لمسؤول فرنسي للمغرب منذ سنة، بسبب ازمة سياسية صامتة. 

الزيارة الرسمية الأولى التي يقوم بها عادة رؤساء فرنسا بعد انتخابهم إلى المنطقة المغاربية، تتنافس عليها الرباط والجزائر. ولأن علاقات الجارين المغاربيَين تتسم في معظم الأحيان منذ استقلالهما بالتوتر، فإن العلاقة مع مستعمرهما الفرنسي تظل مؤشرا مهما لقياس حرارة الأجواء في علاقات باريس بكل منهما على حدة.

ويختار بعض الرؤساء الفرنسيين تونس كأول وجهة مغاربية عندما يشتد الاستقطاب بين الجزائر والمغرب.

بعد توليه الرئاسة سنة 2017 كانت الرباط أول وجهة مغاربية للرئيس إيمانويل ماركرون في منتصف يونيو/ حزيران، ووصفت بـ”زيارة صداقة خاصة”. ثم قام بزيارة رسمية إلى الجزائر في بداية ديسمبر/ كانون الأول 2018.

وتقليديا يدير قصر الإليزيه لعبة توازن دقيقة بين الشقيقين اللدودين، بيد أن الإعلان في باريس عن توجه الرئيس ماكرون بعد اعادة انتخابه في أول زيارة له إلى الجزائر يومي 25 و26 أغسطس/ آب الحالي، في ظل برود تشهده العلاقات مع الرباط، وتتحدث بعض الأوساط القريبة من دوائر القرار في الرباط عن “أزمة صامتة” بين البلدين، يثير تساؤلات لدى المراقبين حول مدى حدة الخلافات بين الشريكين التقليديين في غرب حوض البحر الأبيض المتوسط، وسيناريوهات تطورها.

منذ اعادة انتخابه في مايو/ أيار الماضي لم يجر بين الرئيس ماكرون وجلالة الملك المفدى محمد السادس أي لقاء رسمي أو خاص معلن، حتى أثناء زيارة خاصة قام بها الملك المفدى محمد السادس إلى فرنسا في يونيو/ حزيران الماضي، ودامت أسابيع وذُكر بأنها “لأسباب خاصة” يرجح أن تكون لمتابعة الحالة الصحية لأحد أفراد الأسرة الملكية.

وقبل بضعة أسابيع وجه نواب في البرلمان المغربي سؤالا إلى وزير الخارجية ناصر بوريطة حول ما وصفت بـ”أزمة التأشيرات”. وتفيد تقارير بأن 70 في المائة من طلبات التأشيرات التي يتقدم بها مغاربة يتم رفضها من طرف القنصليات الفرنسية في المغرب.

ويثير هذا الموضوع قلقا لدى شرائح واسعة من المغاربة تشكل فرنسا مقصدا أساسيا في الخارج بالنسبة إليهم، إذ يقدر سنويا عدد المغاربة الذين يحصلون على تأشيرات (سياحة أو عمل) بحوالي 300 ألف شخص.

وفي تعليقها على هذا الموضوع تكتفي الجهات الرسمية الفرنسية بالإشارة إلى الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الفرنسية منذ سبتمبر/ أيلول من العام الماضي بتشديد حصول مواطني المغرب والجزائر ( تقليص بنسبة 50 في المائة) وتونس (30 في المائة) على تأشيرات الدخول إلى فرنسا، وتبرر ذلك بـ”رفض هذه الدول إصدار تصاريح قنصلية لاستعادة مواطنيها الذين يوجدون في فرنسا بشكل غير قانوني”.

بيد أن الموضوع بات يأخذ طابعا أكثر حساسية مع المغرب، حيث يتحدث برلمانيون وإعلاميون عن رسوم تأخذها القنصليات من مقدمي طلبات تأشيرة مرفوضة، واتساع رفض طلبات التأشيرات ليشمل فئات من أصحاب الأعمال والوفود التي تشارك في مؤتمرات مهنية مثل الأطباء.

وضمن الفئات الأكثر تذمرا من إجراءات القنصليات الفرنسية، وزراء ونواب سابقون، يوجهون انتقادات لحكومتهم الحالية بسبب صمتها على ما يرون بأنها إجراءات تنطوي على “إهانة للمغاربة”.

وثمة ملف آخر يكتسي حساسية خاصة وقد طفى منذ أكثر من سنتين على السطح في العلاقات الفرنسية المغربية، ويتعلق بتقارير نشرت حول استخدام برنامج “بيغاسوس” الإسرائيلي للتجسس على شخصيات فرنسية تشمل الرئيس ماكرون نفسه وأعضاء في حكومته، لحساب الاستخبارات المغربية، في حين تنفي الرباط هذه المزاعم.

ورفع المغرب دعاوى ضد وسائل إعلام أوروبية اتهمته ومنها صحيفة “لوموند” الفرنسية المرموقة، ومن جهتها طالبت النيابة العامة في باريس برفض الدعوى لأن الدول لا يمكنها اللجوء إلى القضاء الفرنسي بتهمة التشهير.

 

ويبدو أن الملف ما يزال يلقي بظلال ثقيلة على علاقات المسؤولين في باريس والرباط، ليس فقط باعتبارها ضربة لدرجة الثقة العالية بين دولتين تربطهما علاقات شراكة وثيقة، بل أيضا لما يمكن أن يُفهم من المنظور الفرنسي على أنه مؤشر في تراجع مكانة فرنسا الاستراتيجية بالنسبة للمغرب.

فهل تشهد علاقات البلدين بالفعل تغيرات جوهرية وفي أي اتجاه يمكن أن تكون تطوراتها على الصعيدين الثنائي والإقليمي؟

بحكم رصيدها التاريخي والبشري وكثافة مجالاتها باتت علاقات الشراكة بين فرنسا والمغرب تتجاوز الأبعاد التقليدية في علاقات الدول، إذ يعتبر المغرب حليفا تقليديا ثابتا بالنسبة لفرنسا في القارة الأفريقية، ويوجد به أكبر جالية فرنسية في الخارج، وتحظى الشركات الفرنسية (أكثر من ألف شركة) بأفضلية كبيرة في السوق المغربية ولاسيما في القطاعات الأكثر حيوية في الاقتصاد المغربي، ويأتي المغرب ضمن أفضل وجهات سياحية لدى الفرنسيين، بعد إسبانيا واليونان وجزر موريس (المحيط الهندي).

كما يحظى المغرب في فرنسا بمكانة خاصة، ففضلا عن كونها تستقبل أكبر جالية مغربية في الخارج (1,5 مليون شخص) وهي ثاني أكبر جالية أجنبية بفرنسا بعد الجزائريين.

ولدى باريس والرباط، مداخل كبيرة في التأثير المتبادل على القرار السياسي، فكما لدى فرنسا شبكات نفوذ تقليدية واسعة داخل النخب السياسية والفكرية المغربية، طوّر المغرب عبر التاريخ مراكز نفوذ وجماعات ضغط مؤثرة في السياسة الفرنسية. كما تشكل العلاقات الخاصة والكيمياء بين ملك المغرب وساكن قصر الإليزيه عاملا أساسيا في استقرار علاقات البلدين أو اضطرابها.

بيد أن عمق وكثافة العلاقات المغربية الفرنسية، لم يمنع من تعرضها تاريخيا إلى أزمات وكان معظمها في عهد الحكومات الإشتراكية بفرنسا (فرانسوا ميتران مثلا) ومن أهم العناصر المؤثرة في مراحل الاضطراب التي شهدتها العلاقات، ملفات الصحراء الغربية والمصالح الاقتصادية والأمنية.

ورغم حساسية ملفي التأشيرات والتجسس، فإن تجاوزها لا يبدو مستعصيا على آليات احتواء المشاكل بين الرباط وباريس، مما يرجح برأي مراقبين وجود عناصر خلافية أخرى أكثر عمقا في بنية العلاقات.

ومنذ وصول الرئيس ماكرون للحكم (سنة 2017) شهدت العلاقات حالة تذبذب وتراجع خصوصا بالقياس لفترات نموها في عهد الرئيسين المحافظين جاك شيراك ونيكولا ساركوزي، ويمكن رصد ملامحها في المعطيات التالية:

أولا: تراجع مكانة فرنسا كشريك للمغرب: بدأت في السنوات الأولى بوتيرة قوية ظهرت في تطور العلاقات الاقتصادية وضخ استثمارات فرنسية كبيرة في قطاعات أساسية كالصناعة والنقل والسياحة والخدمات. لكن مكانة فرنسا كشريك تجاري واقتصادي تراجعت إلى المركز الثاني، لحساب إسبانيا.

ثانيا: تزامن وصول الرئيس ماكرون إلى قصر الإليزيه مع عودة المغرب إلى منظمة الاتحاد الأفريقي بعد قطيعة دامت ثلاثين عاما، وخلال سنوات قليلة قفز المغرب إلى مراكز متقدمة في لائحة الدول المستثمرة في القارة الأفريقية.

وما قد يثير فرنسا، كما يقول بعض الخبراء الفرنسيين، ليس تزايد النفوذ المغربي لأن فرنسا نفسها تستفيد منه عندما تعتمد على المغرب كقاعدة نحو السوق الأفريقية، بل أن يتم النشاط المغربي في مناطق نفوذ تقليدي لفرنسا، مثل غرب أفريقيا حيث تتنامى في عدد من دولها نزعات مناوئة لمستعمرها الفرنسي السابق.

وثالثة: أن يكون جانب من ذلك النشاط ضمن شراكات مع قوى أخرى منافسة لفرنسا في القارة الأفريقية، مثل الدول الخليجية والولايات المتحدة وتركيا. إضافة لمحاور تعاون اقتصادي مغربي أيضا مع كل من الصين وروسيا، أشرس منافسي فرنسا في مناطق نفوذها التقليدي بالقارة السمراء.

رابعاً: يميل عدد من المراقبين إلى رصد مظاهر برود فرنسي إزاء خطوة المغرب بتوقيع الاتفاق الثلاثي مع إسرائيل والولايات المتحدة في اغسطس آب 2020، وهو برود لا يمكن تصوره كرد فعل إزاء إقدام المغرب على تطبيع علاقاته مع إسرائيل، بل يمكن فهمه في سياق ملفين حسّاسين بالنسبة لفرنسا وللمغرب في نفس الوقت.