بنكيران وأوزين… حين تتحوّل “كراطة” الماضي إلى مرآة لأسئلة الحاضر

0
181

في لحظة بدت عابرة على شريط فيديو لا يتجاوز ثلاثين ثانية، أعاد عبد الإله بنكيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية ورئيس الحكومة السابق، فتح جرح سياسي tưởng البعض أنه التأم منذ سنوات: قضية “الكراطة” التي أطاحت بمحمد أوزين سنة 2015 بعد فضيحة ملعب الأمير مولاي عبد الله. لكن ما بدا ـ ظاهرياً ـ عودة إلى الماضي، كان في العمق محاولة لقراءة الحاضر وتوجيه رسائل سياسية بعيون نقدية لا تخلو من السخرية المريرة.

مشهد أول: بنكيران يعود إلى أرشيفه السياسي

يظهر بنكيران في الفيديو وهو يطلق عباراته بعفوية صادمة: “أوزين أعفي بعد كراطة… وزراء الصحة والتعليم شحال خاصهم من الجفاف والكراطة باش يستقالو؟

اللغة بسيطة، لكنها تحمل شحنة سياسية وثقافية عميقة. فـ”الكراطة” هنا ليست مجرد أداة لتجفيف عشب ملعب، بل تحوّلت إلى رمز للفضيحة العمومية وللمحاسبة التي تقع بسرعة حين يكون الشخص في دائرة الضوء، وتقابلها ـ في نظر بنكيران ـ فضائح أكبر تمرّ بلا أي قرار، ولا حتى اهتزاز سياسي بسيط.

الخطاب إذن ليس موجهاً فقط لمحمد أوزين، بل للمعايير التي تحكم المسؤولية السياسية في المغرب: لماذا يعفى وزير بسبب “كراطة” بينما تُطوى ملفات تتعلق ـ حسب رأيه ـ بمليارات وصفقات وتضارب مصالح من دون استقالات أو مساءلة؟ هنا يبدأ عمق الرسالة.

أوزين بين الماضي والعودة: صورة سياسي يتحول إلى استعارة

محمد أوزين اليوم ليس ذلك الوزير الذي غادر الحكومة تحت وطأة السخرية الشعبية. لقد عاد إلى المشهد، وأصبح واحداً من أبرز الفاعلين السياسيين في المعارضة ورمزاً لصعود حزب الحركة الشعبية مجدداً. وبالتالي فاستدعاء بنكيران لصورته ليس بريئاً.

زاوية أولى: ذاكرة سياسية لا تُمحى

فضيحة “الكراطة” أصبحت جزءاً من الذاكرة السياسية المغربية؛ كلما حدث خلل أو سوء تدبير، عاد الشارع إلى تلك الصورة: الوزير يحمل “كراطة” ينشف بها ملعباً قبل مباراة دولية.

بنكيران يستثمر هذه الذاكرة ليطرح سؤالاً نقدياً: هل نملك معايير واضحة للمحاسبة أم أن الأمر مجرد انتقائية ظرفية؟

زاوية ثانية: هل استهدف بنكيران أوزين أم استهدف النظام السياسي؟

تحليل الخطاب يكشف أن رئيس الحكومة السابق لا ينتقد أوزين بقدر ما ينتقد منطق الإعفاءات نفسه. فهو يقول صراحة إن ما وقع لوزراء التعليم والصحة أكبر بكثير مما وقع لأوزين، وبالتالي فإن مشكلة “المعايير” أهم من مشكلة الأشخاص.

بهذا المعنى، يصبح تصريح بنكيران طعناً في العدالة المؤسساتية أكثر مما هو طعن في الأشخاص.

زاوية ثالثة: مشهدية السخرية

في تعبير بنكيران: “واش غير ضحكات عليه شي روسية؟” لا نجد تهكماً على أوزين فقط، بل أيضاً تشكيكاً في طريقة صناعة الرأي العام، وفي كيف تصبح السخرية أحياناً أقوى من التحقيق الإداري والقانوني. إنه نقد مبطّن لواقع سياسي باتت فيه الميمات أقوى من التقارير الرسمية.

المؤسسات أمام امتحان بنكيران: أين حدود المسؤولية؟

تصريحات بنكيران تفتح باباً ضرورياً للنقاش: في المغرب، ما زال مفهوم “المسؤولية السياسية” غير ثابت. هناك إعفاءات تأتي سريعاً بعد ضغط رأي عام، وأخرى لا تأتي رغم وجود اختلالات موثقة.

هنا يمكن قراءة كلامه في ضوء منطقين:

1. المنطق التاريخي

تاريخ الحياة الحكومية في المغرب عرف إعفاءات مدوية جاءت بسبب رمزية الحدث أكثر من حجمه (قضية التعيينات، قضية الملاعب، السكن الوظيفي…). لكن في المقابل، ملفات أكبر حجماً وأشد تأثيراً على المال العام لم تتحرك بخصوصها أي إجراءات.

2. المنطق القانوني

القانون التنظيمي للحكومة يحدد بوضوح مسؤولية الوزراء، لكن تفعيل هذا القانون يبقى رهين إرادة سياسية غالباً ما تكون مترددة أو انتقائية.

هنا يضع بنكيران إصبعه على الجرح: لسنا أمام أزمة أشخاص… بل أزمة مفهوم المسؤولية.

تصريحات بنكيران كمرآة لأزمة أحزاب المعارضة والسلطة

التصريح موجّه أيضاً إلى الأحزاب، سواء حزب بنكيران نفسه أو الحركة الشعبية بقيادة أوزين:

– بنكيران يطمح إلى استعادة دور المعارضة الأخلاقية

هو يقدم نفسه كشخص “يقول ما لا يقوله الآخرون”، ليعيد إلى حزبه دور الشرطي الأخلاقي في المشهد.

– أوزين يمثل جيلاً جديداً من السياسيين القادرين على تحويل الفضيحة إلى قوة

في الواقع، أوزين استطاع قلب الصفحة، وتحويله إلى زعيم حزبي، وهو اليوم لاعب أساسي في المشهد.

هنا يظهر الصراع الخفي: صراع رمزي بين شرعية الإنجاز وشرعية الطهرانية السياسية.

السياق الاجتماعي: لماذا يصفق الناس لكلام بنكيران؟

لأن المجتمع يعيش توتراً اقتصادياً واجتماعياً، ولأن الثقة في المؤسسات تراجعت، فالناس يبحثون عن صوت يقول علناً ما يتداولونه هم في المقاهي ووسائل التواصل.
تصريحات بنكيران تلمس هذا الوتر بمهارة.

خلاصة تحليلية: هل قال بنكيران الحقيقة أم مارس السياسة؟

الجواب متعدد:

قال جزءاً من الحقيقة حين تحدث عن غياب معايير واضحة للمحاسبة.

ومارس السياسة حين أعاد تذكير أوزين بماضيه ليس لشيء إلا لتسجيل نقطة رمزية.

ولامس الوجدان الشعبي باستحضار صورة “الكراطة” التي أصبحت أيقونة سياسية ساخرة.

لكن الأهم أن تصريحه اختصر مأزق السياسة في المغرب:
نحن أمام نظام مساءلة لا يملك قاعدة واحدة؛ وأمام أحزاب تبحث عن أدوار رمزية؛ وأمام مجتمع يراقب، يسخر، ويتساءل… في وقت تتوالد فيه الملفات الثقيلة دون وضوح في طريقة معالجتها.