بين أرقام الشكايات وخطاب النزاهة: هل تكفي الاستراتيجيات لمحاربة الفساد في المغرب؟

0
267
صورة: مجلس النواب

في المغرب، لا تُقاس الثقة في الإدارة بما يُعلن من إصلاحات، بل بما يشعر به المواطن حين يطرق باب المرفق العمومي. هذا الشعور – بين الأمل والخذلان – هو ما تختبره الحكومة اليوم في لحظة تقييم جديدة لاستراتيجيتها في مكافحة الفساد.

الأرقام المعلنة تُبهِر للوهلة الأولى: 134 ألفًا و437 شكاية عبر بوابة “شكاية”، بنسبة معالجة بلغت 65.96%. لكن خلف هذه الأرقام، يطلّ سؤال أكبر: هل تعكس هذه المؤشرات نجاحًا إداريًا أم أنها المرآة الرقمية لأزمة الثقة العميقة بين المواطن والدولة؟

بوابة “شكاية”.. حين يصبح التظلّم وجهًا آخر للمواطنة

أن يشتكي المواطن، فذلك في حد ذاته شكل من أشكال المشاركة. المنصة الرقمية “شكاية” التي أطلقتها الوزارة المنتدبة المكلفة بالانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة، تحولت في السنوات الأخيرة إلى فضاء عام جديد، تتقاطع فيه أصوات الغضب والرجاء.

وفق الأرقام الرسمية، جميع القطاعات الوزارية (38 وزارة) انخرطت في المنصة بنسبة 100%. كما التحقت 1590 جماعة ترابية – أي تقريبًا كامل النسيج المحلي – بهذا النظام، إلى جانب 119 مؤسسة عمومية بنسبة تغطية بلغت 43.38%.

لكن ما الذي يعنيه هذا الانخراط الواسع في الممارسة؟ هل هو دليل على انتقال الدولة فعليًا إلى إدارة تفاعلية وشفافة؟ أم مجرد توسيع رقمي لبنية بيروقراطية ما تزال تعاني بطء القرار وثقل المساطر؟

في الواقع، لا يمكن فصل الأداة التقنية عن الثقافة السياسية التي تحتضنها. فالتكنولوجيا الإدارية، مهما كانت متقدمة، تظل قشرة رقيقة إذا لم ترافقها إرادة صادقة لإعادة تعريف معنى “المسؤولية العمومية”. وربما هنا تكمن المفارقة: الدولة تسمع أكثر من أي وقت مضى، لكنّ المواطن ما زال يشعر بأن صوته لا يُحدث أثرًا.

الأرقام التي تبتسم والواقع الذي يعبس

في عرضها أمام لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان، قدّمت الوزيرة أمل الفلاح السغروشني صورة تبدو متفائلة: مركز الاتصال والإرشاد الإداري يرد على أسئلة المواطنين بالعربية والأمازيغية، ويواكبهم في وضع شكاياتهم، كما عالج 15310 سؤالًا خلال الأشهر العشرة الأولى من سنة 2025.

غير أن هذا المشهد المشرق يخفي تساؤلات جوهرية:هل هذه الأرقام تقيس فعلاً جودة الخدمة العمومية أم مجرد حجم الحركة داخل المنظومة؟ كم من شكاية تحوّلت إلى قرار منصف، وكم منها انتهت في أرشيف رقمي بلا ذاكرة؟ ثم، هل الاستماع كافٍ دون مساءلة؟

من الواضح أن المنظومة الرقمية مكّنت من رصد نبض الشارع الإداري، لكنها لم تُحدث بعد النقلة البنيوية التي تُعيد تعريف العلاقة بين المواطن والإدارة. فما جدوى “التحول الرقمي” إذا بقيت العقليات على حالها؟

اللغة الأمازيغية.. من الرمزية إلى السياسات العمومية

ضمن العرض نفسه، توقفت الوزيرة عند إدماج اللغة الأمازيغية في الإدارة العمومية، سواء في وسائل النقل العمومية أو في المواقع الرسمية أو حتى في الجلسات البرلمانية. على المستوى الرمزي، يُعتبر ذلك خطوة متقدمة في مسار الاعتراف بتعدد الهوية الوطنية. لكن السؤال التحليلي يتجاوز الرمزية:

هل إدماج الأمازيغية في الخطاب الإداري يعكس قناعة ثقافية بتعددية الدولة؟ أم هو امتثال بروتوكولي لمقتضيات الدستور دون تغيير فعلي في الثقافة البيروقراطية السائدة؟

إن الإصلاح الإداري لا يُقاس فقط بعدد اللغات المستعملة في النماذج، بل بقدرة الإدارة على التحدث بلغة المواطن في معناها الأعمّ: لغة الشفافية، القرب، والعدالة.

الفساد.. المرض المزمن الذي يتجمّل بالاستراتيجيات

حين تتحدث الحكومة عن “استراتيجيتها الوطنية لمكافحة الفساد”، فإنها تدخل منطقة رمادية بين الطموح والواقع. فالفساد في المغرب ليس ظاهرة إدارية فحسب، بل هو بنية ذهنية واجتماعية متجذرة في أنماط التسيير، وفي علاقات القوة، وفي غياب ثقافة المساءلة الحقيقية.
الوزيرة تحدثت عن مشاريع طموحة:

  • مشروع قانون جديد حول التصريح بالممتلكات في طور المصادقة،

  • مشروع قانون حول الوقاية من تضارب المصالح،

  • إعداد تقرير تقييمي يغطي السنوات 2019–2024،

  • تنسيق مع الهيئة الوطنية للنزاهة بشأن مؤشرات النزاهة المعتمدة من منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OCDE).

لكن، ما الذي تغيّر فعليًا في سلوك السلطة الإدارية أو السياسية منذ إطلاق هذه الاستراتيجية عام 2016؟
هل نجحت الدولة في تجفيف منابع الفساد، أم أنها اكتفت بإدارة مياهه الراكدة ضمن حدود “الممكن السياسي”؟

من المفارقات أن تقييم الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد يأتي في الوقت الذي تتزايد فيه شكايات المواطنين حول الرشوة، المحسوبية، وسوء التدبير المحلي.

ما يعني أن هناك فجوة بين “النظام المعلن” و“النظام الممارس” – بين النصّ والخبرة اليومية للمواطن.

الإصلاح البنيوي.. بين الحلم الإداري والواقع السياسي

كل محاولة لإصلاح الإدارة تُصطدم بسؤال مركزي: هل يمكن بناء إدارة نزيهة في غياب نخب نزيهة؟الإصلاح البنيوي لا يتحقق بالقوانين فقط، بل بخلق بيئة سياسية تُكافئ الشفافية بدل الولاء، وتربط المسؤولية بالمحاسبة لا بالمناصب.

من هنا، قد يبدو أن ما تُعلنه الحكومة من برامج لمكافحة الفساد يظل رهينًا بإرادة سياسية أكبر من حدود وزارة أو لجنة. فالمشكل ليس في غياب الاستراتيجيات، بل في غياب الجرأة في تنفيذها.

تاريخيًا، ظلّ الفساد في المغرب جزءًا من منظومة الضبط الاجتماعي والسياسي، لا استثناءً عنها. ولذلك، فإن تجاوزه يتطلب تحولًا ثقافيًا في مفهوم السلطة نفسها: من سلطة تُمارس من فوق، إلى سلطة تُبنى على الثقة الأفقية بين الدولة والمجتمع.

هل نحن قريبون من هذا التحول؟ أم أن محاربة الفساد ستبقى شعارًا جميلًا فوق جدار البيروقراطية؟

الشفافية كمشروع حضاري

الحديث عن النزاهة لا يجب أن يُختزل في الإجراءات التقنية. فالشفافية مشروع حضاري بامتياز، يعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، وبين الدولة وذاتها. عندما تنخرط الحكومة في “مؤشرات النزاهة” لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، فهي تُعلن رغبتها في أن تُقاس دوليًا ضمن معايير الحوكمة الحديثة.

لكنّ هذه المقاييس، مهما كانت دقيقة، لن تُحدث التغيير ما لم تترجم إلى إرادة مؤسساتية تُعيد بناء الثقة.

فالفساد ليس فقط في الرشوة أو تضارب المصالح، بل في صمت المؤسسات حين تُخطئ، وفي غياب ثقافة الاعتذار والمسؤولية الأخلاقية. ما قيمة التصريح بالممتلكات إذا لم تُنشر نتائجه للعموم؟ وما جدوى التقارير الدورية إذا ظلت مجرّد أوراق توضع على الرفوف البرلمانية دون أثر في السياسات العمومية؟

من أزمة الثقة إلى أفق الشراكة

إن تحليل تجربة “شكاية” يكشف معالم أزمة أعمق من مجرد اختلالات إدارية. إنها أزمة ثقة تتجسد في مفارقة مؤلمة: المواطن يشتكي أكثر لأنه يثق أقل.كل شكاية تُقدَّم هي في جوهرها تعبير عن رغبة في الإنصاف، لكنها أيضًا شهادة على فشل سابق في التواصل أو التفاعل. وحين تتحول الشكايات إلى روتين إداري، فإننا نكون أمام “بيروقراطية التظلّم” التي تُخدر الألم دون أن تعالجه.

هل يمكن تحويل هذا التراكم من الشكايات إلى قاعدة بيانات للإصلاح؟هل تتعامل الحكومة مع هذه الأرقام كأدوات تحليل لسلوك الإدارة، أم كدليل على فعالية المنصة فحسب؟

الجواب على هذه الأسئلة هو ما سيحدد ما إذا كانت “الشفافية الرقمية” قادرة على إحداث قطيعة مع الفساد البنيوي، أم أنها ستُضاف إلى قائمة المبادرات التي بدأت بشغف وانتهت بنسيان.

نحو جيل جديد من الإصلاحات

ربما آن الأوان للانتقال من إدارة الشكايات إلى إدارة الثقة. الإصلاح الحقيقي لا يبدأ بتدبير الغضب، بل ببناء الإحساس بالعدالة.

في هذا السياق، يُمكن أن تشكل نتائج تقييم الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد (2016–2025) نقطة انطلاق لطرح أسئلة أعمق:

  • هل تمتلك الحكومة شجاعة الاعتراف بإخفاقات الاستراتيجية؟

  • هل ستُراجع فلسفة مكافحة الفساد بما يتجاوز الجوانب القانونية إلى إعادة هيكلة القيم الإدارية نفسها؟

  • وهل يمكن أن تتحول الرقمنة من وسيلة للتواصل إلى أداة للرقابة الشعبية الفعلية؟

ما بين هذه الأسئلة، يقف المغرب أمام منعطف دقيق: إما أن يُحوّل التقييم إلى لحظة مصارحة وطنية حول جدوى الإصلاح، أو أن يكتفي بإعادة تدوير الخطاب ذاته تحت عناوين جديدة.

خاتمة مفتوحة: حين يُصبح الإصلاح مرآة المجتمع

في نهاية المطاف، ليست محاربة الفساد مجرد مهمة حكومية، بل مسؤولية مجتمعية مشتركة. فالمواطن الذي يرفض الرشوة، والموظف الذي يُنجز عمله بضمير، والصحافي الذي يكشف الخلل دون خوف، كلهم يشاركون في صناعة نزاهة يومية غير مكتوبة.

لكنّ هذه النزاهة تحتاج إلى دولة تصغي لا لتبرّر، بل لتتغيّر.

من “شكاية” إلى “استراتيجية مكافحة الفساد”، يمرّ الإصلاح في المغرب عبر مسار طويل من الوعود والتقييمات.ومع كل عرض برلماني أو تقرير مؤسساتي، يُطرح السؤال ذاته من جديد:هل نحن بصدد إصلاح إداري أم إدارة للإصلاح؟

قد لا نجد الجواب الآن، لكنّ الأكيد أن كل رقم في سجلات “شكاية” يحمل قصة إنسان، وأن كل قصة تظلّ عالقة بين الأمل والخذلان، حتى يُعاد تعريف المعنى الحقيقي للنزاهة في وجدان الدولة والمجتمع معًا.