بين “إصلاحٍ محرّر” و“سوقٍ محتكر”: ماذا يقول اليماني فعلاً عن 90 مليار درهم ذهبت من جيوب المغاربة؟

0
96

لم يكن تصريح الحسين اليماني، الكاتب العام للنقابة الوطنية للبترول والغاز، مجرّد تذكير بمأساة “تحرير أسعار المحروقات” في المغرب، بل أشبه بجرس إنذار متأخر عن خللٍ اقتصادي صارخ، تُقدَّر كلفته الاجتماعية بما لا يقل عن 90 مليار درهم ضاعت خلال عقد من الزمن.

تسعون مليار درهم ليست رقماً في تقرير، بل هي – حسب لغة اليماني – الوجه الآخر لضيق العيش الذي يرهق 80% من الأسر المغربية اليوم، تلك التي تعيش بين بنزينٍ ملتهب، وخدماتٍ عمومية تزداد انكماشاً، ووعودٍ حكومية لا تُترجم على الأرض.

تحرير أم تحريرٌ من الرقابة؟

حين قررت حكومة عبد الإله بنكيران سنة 2015 رفع يد الدولة عن تحديد أسعار المحروقات، قُدِّم القرار بوصفه خطوة إصلاحية شجاعة. وُعد المغاربة آنذاك بأن الأموال الموفَّرة من صندوق المقاصة ستُوجَّه إلى التعليم والصحة، وهما القطاعان اللذان يقفان اليوم في صدارة أسباب احتجاجات “جيل Z”.

لكن ما حدث فعلياً هو أن السوق تحرّرت من رقابة الدولة، لا من منطق الربح الأقصى. تحولت سلطة التسعير من مؤسسات عمومية إلى شركات توزيع كبرى، بعضها يرتبط مباشرة برجال سياسة نافذين، أبرزهم رئيس الحكومة الحالي عزيز أخنوش، الذي كان وزيراً للفلاحة حين أُعلن قرار التحرير.

وهنا يطرح السؤال نفسه بقوة: هل كان الهدف إصلاح منظومة الدعم، أم إعادة توزيع الثروة نحو أعلى الهرم الاقتصادي تحت غطاء الإصلاح؟

الأرباح الفاحشة بالأرقام

اليماني يضع الأرقام بلا تجميل: السعر الحقيقي للتر الغازوال، بعد احتساب كل التكاليف والضرائب، لا يتجاوز 9.1 درهم، والبنزين 9.9 درهم.

لكن المواطن يؤدي اليوم 10.7 دراهم للغازوال و12.7 درهماً للبنزين. الفارق في الظاهر بسيط، لكنه في الواقع هامش ربح إضافي يتراوح بين 1.6 و2.8 درهم للتر، أي ما يعادل 9 مليارات درهم سنوياً، و90 ملياراً خلال عشر سنوات.

رقم يكشف أن “الإصلاح” تحوّل إلى مزرعة ذهبية للوبيات التوزيع، في حين بقيت المستشفيات والمدارس العمومية في المكان ذاته إن لم نقل في حال أسوأ.

الاقتصاد حين يلتهم السياسة

ما يكشفه هذا التداخل بين من اتخذ القرار ومن استفاد منه، هو وجه آخر لتضارب المصالح في المغرب.

فالرجل الذي كان في موقع السلطة حين تقرر التحرير، هو ذاته الذي يقود الحكومة اليوم، وتحت مظلة شركاته تُحدَّد الأسعار التي ترهق جيوب المواطنين.

فهل نحن أمام “اقتصاد السوق” أم أمام سوقٍ تتحكم فيه السياسة لحساب الاقتصاد الخاص؟
سؤال مؤلم في بلدٍ يرفع شعار العدالة الاجتماعية، بينما تسمح بنيته القانونية بتركيز الثروة في أيدي قلّة.

“جيل Z”… صرخة من الجيل الذي دفع الثمن

اليماني لا يفصل الاقتصاد عن الشارع. فما يعيشه المغرب من غضب شبابي متصاعد ليس طارئاً ولا “عدوى من الخارج”، بل هو نتيجة سياسات اقتصادية راكمت الفوارق وخلقت شعوراً واسعاً بانعدام العدالة. “جيل Z” الذي خرج اليوم إلى الشارع لم يعش مرحلة المقاصة، لكنه ورث نتائجها:

رواتب جامدة، أسعار وقود خانقة، وخدمات عامة منهكة. هكذا تتحول الأرقام إلى احتجاجات وصدامات مع الواقع، حين تفقد الدولة دورها في تحقيق التوازن بين السوق والمجتمع.

“سامير”… الحاضر الغائب

وسط هذا المشهد، يعود اليماني إلى شركة “سامير” كرمز مفقود للسيادة الطاقية. فلو كانت المصفاة الوطنية تعمل اليوم، لكان المغرب أقل ارتهاناً لتقلبات السوق الخارجية، وأكثر قدرة على ضبط الأسعار.

النقابة التي يقودها تطالب بإعادة تشغيلها وتفويتها للدولة، معتبرة أن فقدانها كان أول خطوة في مسلسل التبعية الطاقية، وآخر خيط انقطع بين الدولة والمستهلك في مراقبة الأسعار.

بين المقارنة والاختيار

اليماني يذكّر بتجارب دول أخرى: فرنسا تدخّلت بعد أزمة أوكرانيا لدعم الأسعار بـ18 سنتيماً للتر. الهند تفرض سقوفاً لحماية الفقراء. الجزائر اختارت الاستمرار في دعم الوقود حفاظاً على السلم الاجتماعي. أما المغرب، فاختار ترك السوق “تتدبّر أمرها”، دون أن تتدبّر الدولة أمر المواطن.

فهل يمكن أن تكون يد الدولة الغائبة هي أصل الغضب الحاضر؟

خلاصة نظرية وتحليلية

ما قاله الحسين اليماني ليس فقط انتقاداً اقتصادياً، بل هو اتهام مبطّن لبنية القرار في المغرب: نظام تحرير وُلد باسم الإصلاح، فصار آليةً لإعادة إنتاج الريع. أرباح تتضخم عند القمة، وفواتير تتراكم عند القاعدة. وبينهما، شعب يعيش في ضيقٍ لا يليق بثروات بلده.

السؤال الذي يجب أن يُطرح اليوم ليس: من ربح من التحرير؟ بل: من خسر الوطن من ورائه؟ وهل ما زال في وسع الدولة أن تستعيد زمام المبادرة قبل أن تتحول “أزمة المحروقات” إلى وقودٍ لغضب اجتماعي لا يُطفأ؟