لندن تدعم الحكم الذاتي… والجزائر في متاهة التناقضات: هل دخلت الرباط مرحلة الحسم الدبلوماسي في ملف الصحراء؟
في خطوة ذات أبعاد استراتيجية يتجاوز صداها التصريحات الدبلوماسية، أعلنت المملكة المتحدة، عبر بيان مشترك مع المغرب، تأييدها الصريح لمقترح الحكم الذاتي كحل “أكثر مصداقية وبراغماتية وقابلية للتطبيق” للنزاع في الصحراء المغربية. إعلان جاء بعد انعقاد الدورة الخامسة من الحوار الاستراتيجي بين الرباط ولندن، وشكل لحظة مفصلية في مسار الاعترافات الدولية المتنامية بمبادرة الحكم الذاتي.
فوراً، جاء رد الفعل الجزائري. ولكن، وبعيداً عن لهجة “الأسف” التي حملها البيان الرسمي، فإن القراءة المتأنية له تكشف عن ارتباك غير مسبوق في خطاب الجزائر الدبلوماسي، يترنح بين النفي والإنكار، والتقليل من أهمية الموقف البريطاني، والتشكيك في جديته، في مقابل محاولة التشبث بخطاب فقد الكثير من مبرراته.
فإذا كانت الجزائر ترى أن لندن لم “تدعم السيادة المغربية”، فلماذا تعبر عن “أسفها”؟ وهل يكفي هذا التناقض اللغوي لتغطية حقيقة أن الرباط سجلت انتصاراً جديداً، ينضاف إلى دعم واشنطن وباريس ومدريد وبرلين وبروكسيل والعديد من عواصم القرار الدولي؟
ثم، ما دلالة أن تصدر الجزائر بياناً هجومياً في ظرف ساعات فقط من إعلان الموقف البريطاني؟ هل هي محاولة استباق لتحجيم الأثر السياسي والإعلامي للقرار؟ أم أنه انعكاس لحالة قلق عميقة من وتيرة الانتصارات المتسارعة التي تحققها الدبلوماسية المغربية بهدوء وثبات؟
في ذات البيان، تدعي الجزائر أن مبعوثي الأمم المتحدة “لم يأخذوا الحكم الذاتي على محمل الجد”، وهو تصريح لا يدعمه أي تصريح رسمي موثق من هؤلاء المبعوثين، ولا ينسجم مع التقارير الأممية التي توصي بـ”حل سياسي واقعي ومتوافق عليه”. فهل تحاول الجزائر إعادة كتابة التاريخ الدبلوماسي للنزاع وفق روايتها الخاصة؟
بيان الجزائر أيضاً يحاول التقليل من تصريح الوزير البريطاني ديفيد لامي حول دعم لندن لمقترح الحكم الذاتي، بزعم أن بريطانيا لا تزال متمسكة بـ”تقرير المصير”، غير أن ما جاء في البيان البريطاني-المغربي المشترك واضح: الحكم الذاتي هو الحل الواقعي، وهو ما يشكل تحوّلاً نوعياً في موقف كان إلى وقت قريب متردداً.
على الجانب المغربي، فإن هذا الموقف البريطاني يأتي كتتويج لسلسلة طويلة من التحركات الاستراتيجية التي قادتها الدبلوماسية الملكية بتوجيه من صاحب الجلالة الملك محمد السادس، والتي أثمرت اعترافات متصاعدة بمغربية الصحراء، وبدأت تترجم أيضاً في قرارات اقتصادية واستثمارية. فبريطانيا، وفق نفس البيان، أعلنت استعدادها لتمويل مشاريع في الصحراء المغربية عبر وكالة تمويل الصادرات البريطانية، وهو ما يُعد تجسيداً مادياً لهذا الموقف السياسي الجديد.
وفي ظل هذا التحول، يُطرح السؤال: ما هي الخيارات المتبقية أمام الجزائر وجبهة البوليساريو؟ وهل يمكن للاستمرار في خطاب النفي والشكوى أن يوقف هذا المد المتنامي من الاعترافات الدولية بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية؟
ختاماً، يبدو أن الرباط تقترب من إنهاء هذا النزاع المفتعل عبر سياسة “التحرك الهادئ”، فبينما تنشغل الجزائر بإصدار بيانات متناقضة، تعمل الدبلوماسية المغربية على توسيع دائرة المؤيدين لحل الحكم الذاتي، ليس فقط باعتباره مقترحاً مغربياً، بل كخيار دولي عقلاني، يؤمن الاستقرار ويكسر الجمود.
فهل دخلنا فعلاً مرحلة “ما بعد البوليساريو”؟ وهل تشهد السنوات القادمة نهاية هذا النزاع المزمن في ظل تقهقر الرواية الانفصالية، وانهيار سردية “الاستفتاء” أمام الدينامية الواقعية والسيادية التي تقودها الرباط؟
الأسئلة مفتوحة… لكن المؤشرات كلها تميل إلى كفة المغرب.