بين البيروقراطية والاحتيال: المهاجرون غير النظاميين في فرنسا ضحايا فراغ الحوكمة

0
247

نشرت وكالة الأنباء الفرنسية (أ.ف.ب) تقريراً صادماً حول انتشار شبكات احتيال تستهدف المهاجرين غير النظاميين في فرنسا، وتدرّ ملايين اليوروهات عبر ما يُسمّى “مراكز تدريب”، أو “مستشارين قانونيين” غير مؤهلين، أو حتى منصات رقمية تبيع أوهاماً في شكل بطاقات غامضة وملفات لجوء معدّة مسبقاً.

ظاهرة الاحتيال: أعراض لا أسباب

القصص التي يسردها التقرير، مثل حالة أحمد القادم من تونس الذي تعرض لابتزاز مالي متكرر على يد من قدّم نفسه كـ”خبير قانوني”، ليست حوادث معزولة. بل هي انعكاس لخلل أعمق في إدارة ملف الهجرة. التحول من الإجراءات الورقية إلى الرقمية، وتعقيد القوانين، والارتفاع الكبير في عدد الطعون خلال السنوات الأخيرة، كلها عوامل وفّرت بيئة مثالية لانتعاش شبكات تستغل هشاشة المهاجرين.

جمعية “أنتاناك” الفرنسية تؤكد أن تعقيد الإجراءات وعدم وضوح المساطر القانونية يدفع المهاجرين إلى البحث عن بدائل غير رسمية، حتى لو كانت محفوفة بالمخاطر. هذه الشهادة تجد سنداً لها في تقارير المجلس الأعلى للهجرة (Conseil supérieur de l’immigration)، التي تشير إلى أنّ الانتقال إلى الرقمنة في غياب مواكبة اجتماعية ومؤسسية يضاعف من هشاشة الفئات الأضعف.

تناقض الخطاب والسياسات

من جهة، تعلن فرنسا – عبر خطابات رسمية – التزامها بحقوق الإنسان وبتسهيل إدماج المهاجرين، ومن جهة أخرى تؤدي سياساتها المتشددة إلى تكريس اقتصاد ظلّ يستنزف المهاجرين ويضاعف غربتهم. التناقض واضح: الدولة تجرّم الوسطاء غير الشرعيين لكنها في الوقت نفسه تنتج، عبر بيروقراطيتها المعقدة، الطلب على خدماتهم.

هذا التناقض ليس خاصاً بفرنسا. ففي ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، وثّقت دراسات Migration Policy Institute و OECD أن التشدد في شروط الإقامة يدفع المهاجرين إلى الاعتماد على وسطاء غير نظاميين، ما يفتح الباب أمام الاستغلال.

أثر بنيوي لا فردي

المسألة هنا لا تتعلق فقط بأشخاص وقعوا ضحية احتيال مالي، بل ببنية مؤسساتية تنتج “مواطنة منقوصة”. فالمهاجر الذي يعيش بين الخوف من الترحيل وبين متاهة القوانين يجد نفسه عرضة لمنطق “الخدمات الرمادية” التي تتحرك بين الشرعية والاحتيال. هذه الممارسات تقوّض الثقة في المؤسسات وتضعف صورة العدالة الاجتماعية التي يفترض أن تقوم عليها الدولة الديمقراطية.

استسلام قسري

المؤشرات التي عرضها التقرير، مثل مجموعات “واتساب” التي تضم مئات الأعضاء، أو منصات “تيك توك” التي تروّج لدورات وهمية، تكشف أن الظاهرة أصبحت صناعة قائمة بذاتها. الضحايا، وكما قالت النقابية ساندرا موران، يتعاملون مع الاحتيال كقدر محتوم، بل وكأنهم “يستحقون ما جرى لهم”. هذه الحالة النفسية من الاستسلام تكشف عن انكسار مزدوج: قانوني واجتماعي.

ما وراء الخبر

القضية ليست فقط فضح ممارسات احتيالية، بل مساءلة السياسات التي تسمح باستمرارها. فغياب آليات مواكبة قانونية مجانية، وعدم الاستثمار في الترجمة والمساعدة الإدارية للمهاجرين، يضاعف منسوب الضعف. في المقابل، تجارب دول أخرى مثل كندا وهولندا أظهرت أن الاستثمار في خدمات قانونية مهيكلة وشفافة يقلص إلى حد كبير من هذه الأسواق السوداء.

الخلاصة التحليلية:
التقرير يكشف واقعاً مأساوياً لكنه أوسع من مجرد احتيال فردي. إنه مرآة لفجوة هيكلية بين خطاب رسمي عن حقوق المهاجرين وبين ممارسات مؤسساتية تنتج التهميش. معالجة الظاهرة تتطلب أكثر من مطاردة المحتالين، بل إصلاحات عميقة في آليات الحوكمة وسياسات الإدماج، بما يحمي المهاجرين من أن يكونوا رهائن بين البيروقراطية والاحتيال.