مرة أخرى، تتحرك وزارة الداخلية. تعليمات مستعجلة، لجان تفتيش، تقارير تُرفع على عجل، وأسماء منتخبين نافذين تعود إلى الواجهة. المشهد مألوف، كُتب على المغاربة أن يعيشوا داخل دائرة مفرغة: فضائح، لجان، تقارير… ثم صمت كثيف. وكأن البلاد تعيد عرض فيلم قديم لا يتغير إلا في تفاصيله الثانوية.
لكن ما يحدث اليوم ليس عادياً. فالتوجيهات التي عمّمتها المصالح المركزية للداخلية لم تكتفِ بالتحقيق في “اختلالات” هنا أو “شكايات” هناك، بل فتحت دفاتر عمرها سنوات، تخص خروقات تعميرية ومالية مرتبطة بمشاريع يملكها منتخبون أنفسهم، أي أولئك الذين كان يفترض أن يحرسوا القانون لا أن يخرقوه.
تاريخ يُعاد كتابته: عندما يتحوّل المنتخب إلى مضارب عقاري
المثير في هذه القضية ليس وجود تجاوزات — فهذه لم تعد مفاجِئة — بل وقعها البنيوي. فبعض التقارير تتحدث عن رؤساء جماعات يملكون تجزئات داخل نطاق سلطتهم، يُمنحون رخص التجزيء بشروط تفضيلية، ثم تُكتشف لاحقاً تلاعبات في تجهيز الشوارع، والربط بالطرق، والاستيلاء على مرافق عمومية.
إنه النوع من الخروقات الذي يضرب جوهر فكرة اللامركزية. فالديمقراطية المحلية قائمة على مبدأ الرقابة والمساءلة، لكن ماذا يحدث عندما يتحوّل صاحب السلطة إلى صاحب المصلحة؟ عندما يصبح المُراقِب هو نفسه المستفيد المباشر من القرار؟
هذه ليست مجرد تجاوزات تقنية، بل تصادم مباشر بين الوظيفة العمومية والمصلحة الخاصة — وهو ما يشكل قانونياً تضارب مصالح صريح، ومجتمعياً هدمًا للثقة، وسياسياً إفلاساً لمنطق تمثيل المواطنين.
شكايات تكشف ما كان يُدار في الظل
تقارير العمالات والأقاليم تتحدث بلغة جافة لكنها فاضحة:
-
ابتزاز مستثمرين.
-
صفقات عقارية مشبوهة.
-
تفويت أراضٍ جماعية.
-
احتكار شركات تابعة لمنتخبين لجميع الصفقات.
-
مناقصات صورية.
-
اختفاء تجهيزات أساسية في تجزئات سكنية.
-
واجهات اجتماعية تتحوّل إلى فيلات للأغنياء.
قد يبدو هذا مثل سيناريو فيلم سياسي، لكنه واقع إداري واجتماعي يعيشه ملايين المواطنين يومياً: طرق غير مكتملة، أحياء بلا قنوات صرف، مساحات خضراء اختفت في الأوراق، ومشاريع سكنية تحولت إلى “مصائد مالية” للمواطنين.
القانون موجود… لكنه لا يتحرك إلا عندما يُسمح له
من الناحية القانونية، ما ورد في التقارير يدخل في نطاق ما يسمّيه قانون الصفقات العمومية بـ”الإخلال grave”، وما يسميه قانون الجماعات بـ”سوء التدبير الجسيم”. وهناك مواد صريحة تُوجب الإحالة على القضاء.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه — ليس فقط على الصحفيين بل على الرأي العام ــ هو التالي:
**إذا كانت كل هذه الاختلالات موثقة… فأين النتائج؟ أين المتابعات؟ أين المحاسبة؟**
لقد رأينا موجات تحقيقات مشابهة في السنوات الأخيرة:
-
لجان تفتيش في ملفات التعمير.
-
تقارير سوداء عن اختلالات الجماعات.
-
إحالات إلى المجلس الأعلى للحسابات.
-
تدخلات مركزية لإعادة النظام.
ومع ذلك، بقيت الخلاصة واحدة: لا نهاية واضحة. لا محاكمات كبيرة. لا سقوط سياسي.
يُفتح التحقيق بحماسة… ويُغلق بصمت.
التحقيقات الحالية: فرصة أخيرة أم إعادة إنتاج للمشهد القديم؟
اليوم، وزارة الداخلية تأمر بتسريع التحقيقات قبل نهاية السنة. لكن هل تتجاوز هذه الخطوة مجرد حركة تقنية لتسوية ملفات معلّقة؟ أم أنها مقدمة لتحول حقيقي في علاقة الدولة بالجماعات الترابية؟
الجواب ما يزال غامضاً. والواضح فقط هو التالي:
-
حجم الاختلالات لم يعد يحتمل التساهل.
-
تداخل السياسة بالعقار أصبح بنية لا حادثة.
-
والمجتمعات المحلية صارت ضحية “اقتصاد انتخابي” قائم على تبادل المنافع.


