بين القرار الملكي وروح الشعيرة: هل ضاعت بوصلة الأمن الديني والاجتماعي في مغرب اليوم؟

0
308

رغم القرار الملكي الحاسم بإلغاء شعيرة عيد الأضحى هذه السنة، نظراً للوضعية المتردية للقطيع الوطني بفعل الجفاف وارتفاع كلفة المعيشة، لاحظت مختلف المنابر الإعلامية، وعلى رأسها جريدة “المساء”، ظاهرة لافتة: إقبال واسع من المواطنين على اقتناء الأضاحي في الأسواق، تحت ذرائع دينية وشخصية متعددة، مما أدى إلى موجة جديدة من ارتفاع الأسعار، طالت ليس فقط الأكباش، بل أيضاً اللحوم الحمراء و”دوارة” الخروف.

هذا المشهد، الذي يفترض أن يكون استثنائياً، يثير تساؤلات عميقة تتجاوز منطق الاستهلاك أو العادة الموسمية. فما الذي يجعل شريحة واسعة من المواطنين تتصرف بما يشبه “التمرد الناعم” على توجيه ملكي، رغم ما يحمله من بُعد ديني، شرعي، واقتصادي واضح؟ وأين تتقاطع المسؤوليات بين الدولة، المؤسسة الدينية، والخطاب الإعلامي في ضبط إيقاع الفعل الجمعي المرتبط بالشعائر؟

بين الدين والسياسة: ماذا يعني إلغاء شعيرة من هذا النوع؟

من الناحية الشرعية، يُعدّ قرار الملك ـ بصفته أميراً للمؤمنين ـ بإلغاء شعيرة الذبح فعلاً دينياً مؤسساً على قاعدة درء الضرر، بعد استشارة العلماء والمؤسسات المختصة، ومراعاة لواقع القطيع الوطني والمواطنين على السواء. أي أن قرار الإلغاء لم يكن مزاجياً ولا سياسياً ضيقاً، بل مؤطراً بفقه الضرورة والمصلحة العامة.

لكن السؤال الأهم: هل وصل هذا المعنى فعلاً إلى وجدان المواطن؟ أم أن الخلل يكمن في ضعف التأطير الديني والإعلامي الذي يفترض أن يُترجم القرار إلى لغة القيم والمصلحة الشرعية الواضحة، وليس فقط باعتباره خبراً أو تعليمات صادرة من الأعلى؟

من المسؤول عن اختلال الأمن الديني والاجتماعي؟

ما حدث، في عمقه، ليس مجرد “خرق لقرار إداري”، بل تعبير عن أزمة مركبة: أزمة ثقة في المؤسسات الدينية التي لم تُقنع الناس بما فيه الكفاية بأن الإلغاء مبني على أحكام الشرع لا على اعتبارات سياسية فقط، وأزمة في التواصل العمومي الذي فشل في تأطير الشعيرة بشكل استباقي يُقنع المواطن لا يُمليه عليه.

وما يزيد الصورة تعقيداً هو أن هذا الإصرار الشعبي على الذبح، حتى في ظروف الجفاف وارتفاع الأسعار، يكشف عن هشاشة الأمن الروحي للمغاربة، وتضارب المرجعيات التي تؤطر فهمهم للدين في المجال العمومي. فهل نعيش حالة من “الانفصام الثقافي” بين الدولة التي تقرر باسم الشرع، ومجتمع لا يرى في القرار سوى تدخلاً في “دين الفرد”؟

اقتصاد الشعيرة والخلل المزمن

من الجانب الاقتصادي، أدى الإقبال المفاجئ على الأضاحي إلى ارتفاع حاد في أسعار الأكباش، اللحوم الحمراء، و”الدوارة”، مما زاد من الضغط على الفئات الهشة التي كانت أصلاً هدفاً للحماية من خلال القرار الملكي. فاللحوم ارتفعت بـ10 دراهم، و”الدوارة” قفزت من 200 درهم إلى 600 درهم، ما يجعل “شعيرة الرحمة” تتحول إلى أزمة معيشية مضاعفة.

هل يمكن القول إذن إن الخطاب الديني غير المصحوب بسياسة اقتصادية صارمة ومراقبة حقيقية للأسواق، يبقى حبراً على ورق؟ وهل الحكومة والمجالس المنتخبة تتحمل مسؤولية التقاعس في ضبط السوق وتأطير الناس، أم أن الأمر أعمق من ذلك؟

في الخلاصة: هل فشلنا في بناء عقل جمعي يتجاوب مع القرار الرشيد؟

ما وقع خلال أيام قبل عيد الأضحى ليس مجرد حادث موسمي، بل مرآة لواقع مأزوم في البنية المؤسساتية للقرار، وفي فعالية التأطير الديني والمدني، وفي قدرة الدولة على بناء الثقة بين المواطن والمؤسسة.

فهل المطلوب اليوم هو فقط تكرار القرارات من أعلى، أم أن الحاجة أصبحت ملحّة لبناء إعلام ديني ومجتمعي مستقل، ينقل المعنى ويؤسس لقيم جديدة في فهم الشعائر وتفاعل المجتمع مع مؤسساته؟

وإذا كان القرار الملكي قد حمل روح الشريعة، فهل نملك نحن كدولة ومجتمع الأدوات الضرورية لحماية تلك الروح من أن تضيع وسط الأسواق واللهاث الاستهلاكي؟