بين الوفرة والفراغ: قراءة في شهادة منير لكماني عن الإنسان المعاصر

0
123

في زمن تتكسر فيه المرجعيات كما تتكسر الأمواج على صخور مجهولة، كتب منير لكماني من ألمانيا نصًا مكثفًا بعنوان «اختلال البوصلة: الإنسان بين الوفرة والفراغ». نصّ لا يقف عند حدود المقال الصحافي التقليدي، بل يغوص في عمق الأزمة الحضارية التي يعيشها الإنسان اليوم، حيث الحرية اتسعت إلى أقصى حدودها، لكن المعنى انكمش حتى كاد يتلاشى.

وفرة الجسد… وفراغ الروح

ينطلق الكاتب من المفارقة الجوهرية: الإنسان يعيش وفرة مادية غير مسبوقة، تحيط به أسواق الاستهلاك وتغمره الرفاهية، لكن هذه الوفرة لم تُترجم إلى طمأنينة روحية. بالعكس، الروح تزداد عطشًا، والقلق يتسع، حتى صار الفراغ هو الوجه الآخر للامتلاء. هنا يلتقي نص لكماني مع أطروحات زيغمونت باومان حول “الحداثة السائلة”، حيث الوفرة لا تُنتج الاستقرار بل المزيد من القلق.

الفردانية المهيمنة

يرصد الكاتب تحوّل الفرد من كائن اجتماعي مرتبط بتقاليد وقيم، إلى فرد يعرّف نفسه بما يستهلكه ويملكه. الحرية الشخصية صارت شعارًا، لكنها حرية بلا التزام. هذا التشخيص يعيد إلى الأذهان ما كتبه ألكسيس دو توكفيل قبل قرنين عن خطر الفردانية في الديمقراطيات الحديثة، لكنه عند لكماني يبدو أكثر جذرية: الفرد صار مستهلكًا قبل أن يكون مواطنًا.

انكسار المعايير وفقدان البوصلة

لا مشاريع كبرى، لا قيم جامعة، ولا يقين مطلق. المعنى تفتت إلى رؤى متفرقة، والزمن اختُزل إلى لحظة عابرة. وهنا تطرح شهادة لكماني سؤالاً فلسفيًا ملحًا: هل تحوّل الحاضر إلى سجن يبتلع الماضي والمستقبل معًا؟ وهل اختزال الحياة إلى سلسلة لذّات مؤقتة هو قدر الإنسان في عصر ما بعد الحداثة؟

مجتمع الاستعراض

من أبرز ملامح النص نقده لهيمنة الإعلام والإعلانات، حيث صارت المعاني تُصاغ على إيقاع الموضة والصورة. هذا التشخيص يقارب ما حذّر منه غي ديبور في “مجتمع الاستعراض”، حيث يصبح الواقع مجرد مشهد متجدد، يلهث وراءه الفرد بلا توقف. لكن خلف هذا المشهد البراق يكمن فراغ داخلي، ملل متجدد، وقلق لا يزول.

هشاشة الروابط وضعف الالتزام

يشير الكاتب إلى تراجع المشاركة السياسية وتفكك التضامن الاجتماعي. الجماهير تحولت إلى متفرجين، والمجتمع بات هشًا أمام الأزمات. هنا يتقاطع النص مع أطروحة حنة أرندت عن “أزمة المشاركة”، ومع ما يشهده العالم فعليًا من عزوف جماعي عن السياسة لصالح انشغالات فردية عابرة.

عصر الانطفاء: الحرية بلا معنى

يخلص منير لكماني إلى أن عصرنا ليس عصر التحرر والانفتاح فحسب، بل أيضًا عصر الانطفاء: وفرة خارجية بلا غاية داخلية. الحرية المفرطة لم تُنتج مشروعًا جماعيًا، بل عمّقت الوحدة. وهنا يتوجه النص مباشرة إلى القارئ: هل نحن أمام حضارة تملك كل الوسائل المادية، لكنها فقدت الغاية الروحية؟

أسئلة مفتوحة للنقاش

النص يترك القارئ أمام أسئلة مؤرقة:

  • هل يستطيع الإنسان أن يجد توازنًا بين حريته الفردية ومسؤوليته الجماعية؟

  • هل يمكن استعادة معنى يتجاوز الاستهلاك واللحظة العابرة؟

  • هل يحتاج العالم إلى بوصلة قيمية جديدة، تعيد للحياة عمقها الذي فقدته؟

إن نص منير لكماني يقدّم نفسه كـ صرخة فكرية أكثر من كونه مقالاً صحافيًا. صرخة تقول إن الإنسان، رغم ما يملكه من وفرة، يعيش عطشًا دائمًا إلى المعنى. ومن هنا يصبح النص مادة غنية للصحافة التحليلية: فهو لا يصف فقط، بل يفتح أبوابًا للتأمل في مصير الحضارة الإنسانية ذاتها.