من الدار البيضاء إلى الرباط… خيوط تزوير وتواطؤ تتكشف في صمت
في مشهد يندر تكراره، تتحرك لجان يقظة إقليمية في صمت بين النواصر ومديونة وسلا، لرصد اختلالات عمرانية خطيرة متورط فيها منتخبون وأعيان نافذون، حاليون وسابقون. البعض وصف الأمر بـ”زلزال تحت السطح”، بينما يرى آخرون أن ما يجري لا يعدو كونه جولة جديدة في معركة قديمة بين القانون والسلطة الرمزية.
فهل نحن فعلاً أمام إرادة جديدة لفرض هيبة الدولة؟ أم أن الأمر مجرد “جولة تأديبية” تنتهي بترتيب الملفات في الأدراج؟
تراخيص مشبوهة… والسلطة تفتح أعينها متأخرة؟
السلطات الإقليمية على طول محور الرباط – الدار البيضاء بدأت في ملاحقة مستفيدين من رخص مخالفة، أبرزها رخص بناء واستغلال صناعي فوق أراضٍ غير مخصصة لذلك. اللجان المشتركة، التي تضم ممثلين عن العمالات والوكالات الحضرية والشرطة الإدارية، صدمت من حجم الخروقات التي وثقتها: بناء بدون احترام التصاميم، الربط غير القانوني بشبكات الماء والكهرباء، واستغلال أراضٍ فلاحية في أنشطة مشبوهة.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه:
لماذا لم تتحرك هذه اللجان إلا الآن؟ وهل كان هناك “تواطؤ بالصمت” طيلة السنوات الماضية؟
حسان والدائرة الثانية: الاستثناء الذي يفضح القاعدة؟
رغم أن منطقة حسان، وخاصة الدائرة الثانية الإدارية، معروفة بمخالفات عمرانية فاضحة تُرى بالعين المجردة، لم تُسجل إلى الآن أية متابعة معلنة أو تقرير رسمي. كيف يمكن تفسير هذا “السكوت الانتقائي”؟ هل تحولت بعض المناطق إلى “مناطق عازلة” محمية بحصانة سياسية؟ ومن يحمي هذه الجيوب من المساءلة، رغم وضوح التجاوزات؟
أليس هذا التفاوت في تطبيق القانون دليلاً على استمرار منطق “انتقائية الدولة”؟ وهل هناك حقًا نية لكسر هذا النمط؟
الموظف الصغير في قفص الاتهام… والمنتخب محصن؟
في أكثر من حالة، تبين أن بعض الموظفين الإداريين تلاعبوا بوثائق رسمية لتسهيل تمرير رخص مشبوهة، تحت ضغط أو تعليمات من منتخبين نافذين. بينما تسربت معلومات عن إعداد لائحة تضم أسماء برلمانيين ومستشارين متورطين في هذه الشبكات، إلا أن المساءلة لم تمسهم مباشرة بعد.
فهل تجرؤ السلطة فعلاً على فتح ملفات من هذا النوع حتى نهايتها؟
أم أن الموظف البسيط سيكون كالمعتاد هو “كبش الفداء” في مسرحية أكبر منه؟
التعمير… ساحة المواجهة الجديدة؟
من خلال معطيات لجان التفتيش، يبدو أن أقسام التعمير تحولت إلى بؤر اختلال ممنهج. تقارير وزارة الداخلية تؤكد تحرير تعليلات مغلوطة لمنح رخص “شهادات السكن” لمبانٍ لا تحترم القانون، وتحديدًا في جماعات قروية تحيط بالدار البيضاء.
هل تتحول أقسام التعمير إلى أدوات بيد المنتخبين لشرعنة خروقات؟
أين دور المفتشيات العامة؟ وأين هي الرقابة الاستباقية التي تمنع الكارثة قبل وقوعها؟
رسالة لفتيت: بين محاولة إصلاح واقعية ومقاومة متجذرة
في خطوة ذات دلالة، راسل عبد الوافي لفتيت، وزير الداخلية، رؤساء الجماعات مطالبًا بوقف ربط منح الرخص بأداء الديون، واصفًا الأمر بأنه ممارسة غير قانونية. لكن الواقع يكشف أن العديد من الرخص تُمنح في إطار “تفاهمات” غير رسمية، تستغل الحاجة للاستثمار كغطاء لمنح امتيازات دون وجه حق.
هل تكفي المراسلات الوزارية لإيقاف سلوك تغذيه شبكة مصالح محلية معقدة؟
وأين دور القضاء الإداري في مراقبة قانونية الرخص الممنوحة؟
هل تسير الدولة نحو “تجفيف منابع الفساد المحلي” فعلاً؟
المؤشرات الأولية توحي بأن الحملة الحالية لا تتعلق فقط بخروقات تقنية، بل بملف سياسي في جوهره، يهم علاقة السلطة بالمنتخب، وحدود النفوذ الذي يمارسه “الأعيان الجدد” في البناء العشوائي واستغلال المجال العمومي.
لكن حتى الآن، لا وجود لأسماء موقوفة أو لائحة معلنة للمخالفين. فقط أخبار متفرقة وتصريحات غير رسمية، و”تسريبات” يتم تداولها على نطاق محدود.
هل نشهد بداية تحوّل في منطق الحكامة المحلية؟
أم أن الأمر مجرد “جس نبض” من قبل الداخلية لقياس قوة شبكات النفوذ قبل الحسم؟
خلاصة أولية: الحكم على النوايا لا يكفي
التحرك الأمني والإداري ضد الخروقات العمرانية والمهنية، إذا لم يتطور إلى محاسبة واضحة وشفافة تشمل المنتخبين قبل الموظفين، فسيبقى في خانة “الاستعراض الوقتي” الذي سرعان ما يخبو تحت ضغط التفاهمات.
فهل تمتلك الدولة اليوم الإرادة الكاملة لكسر هذا التواطؤ التاريخي بين “السلطة” و”المال الانتخابي”؟
أم أننا أمام موجة أخرى من “التحقيقات الصامتة” التي تبدأ صاخبة وتنتهي… بلا صوت؟