تحقيق استقصائي: من يرفع سعر البيض في المغرب؟ بين مافيا الأعلاف، الإفلاس الصامت، ومزارع تُصادر

0
382

في ظل ارتفاع أسعار “بيض المائدة” بالمغرب مؤخراً، وتفاقم الأزمات التي تعصف بقطاع إنتاج الدواجن، تبرز حقائق مقلقة تفتح الباب على سلسلة من التساؤلات حول الأسباب الحقيقية وراء هذه الزيادات، ومدى تأثيرها على مربي الدواجن والمستهلك المغربي. إذ تشير معطيات ميدانية دقيقة إلى أن الأزمة لا ترتبط فقط بالعرض والطلب أو الظروف المناخية، بل تتعداها إلى ممارسات احتكارية وشبه مهيمنة من قبل شركات الأعلاف والمستلزمات البيطرية.

ارتفاع الأسعار وأسبابها الظاهرة

شهدت أسعار بيض المائدة ارتفاعاً ملموساً في الأسواق والضيعات، حيث انتقل سعر البيضة الواحدة من 0.85 إلى 1.12 درهم، وسط توقعات بارتفاع إضافي. يُرجع البعض هذا الارتفاع إلى موجات الحر التي تسببت في نفوق الدواجن، خصوصًا في الضيعات الصغيرة التي تفتقر لتجهيزات التبريد، كما أكد ذلك بعض الفاعلين في السوق.

لكن هذه التبريرات لا تكفي لتفسير الظاهرة، خاصة في ظل وجود ضيعات كبرى مجهّزة تقنيًا ولا تتأثر بذات القدر بالتقلبات المناخية، ما يثير الشكوك حول تفسيرات مبسطة تعتمد فقط على الطقس أو الإنتاج.

الأزمة الحقيقية: إفلاس المزارعين وهيمنة شركات الأعلاف

تشهد سوق بيض المائدة في المغرب أزمة هيكلية أعمق مما يبدو على السطح، تتجاوز اختلالات العرض والطلب إلى أزمة تمويلية خانقة تهدد بقاء آلاف الضيعات الصغيرة والمتوسطة.

خلال الثلاثة أشهر الأخيرة، وثّقت الجمعية الوطنية لمربي الدواجن ما لا يقل عن 37 حالة إفلاس في ضيعات البيض، تعود أسبابها إلى تبعية تمويلية غير متوازنة تربط المزارعين بشركات الأعلاف التي تمنح المواد العلفية والمستلزمات البيطرية على شكل ديون مؤجلة الدفع.

يؤكد خالد الإدريسي، الكاتب العام لجمعية موزعي بيض المائدة، أن هذا النموذج أدى إلى انسحاب عدد كبير من المنتجين الصغار من السوق، بعدما أصبحوا غير قادرين على سداد التزاماتهم، بينما يحتكر كبار المنتجين الإنتاج والتسعير.

استحواذ مقنّع على الضيعات عبر الديون

وراء الكواليس، تُروى قصة أكثر تعقيدًا وظُلمة: فبحسب شهادات متقاطعة من مربي دواجن وتجار جملة، تُستخدم الديون كأداة ضغط مالي. يوضح أحد بائعي الدجاج بالجملة أن بعض الشركات تعمد إلى توريط المزارعين في مديونية مستمرة، يُجبرون بموجبها على بيع البيض بأسعار تقلّ عن تكلفة الإنتاج، فقط للتمكن من الوفاء بالتزاماتهم، ما يخلق حلقة مفرغة من العجز المالي.

وفي حالات العجز، تُفعّل تلك الشركات إجراءات استرداد الديون عبر ترتيبات قانونية من قبيل التنازل الجزئي عن الأصول، الرهن التجاري، أو التحكيم الرضائي، ما يؤدي فعليًا إلى استحواذ غير مباشر على ممتلكات الضيعات. هذه الممارسات لا تزال غامضة في ظل غياب الشفافية، وتُعرّي هشاشة البنية القانونية التي تحكم العلاقة بين الطرفين.

المزارعون في مواجهة المجهول

الكثير من مربي الدواجن لا يملكون سوى أمل ضعيف في النجاة من هذه الأزمة. يقول أحد الفلاحين الذي فقد مزرعته: “غرقوني بالعلف والديون، اضطررت لبيع كل شيء بأقل من الثمن، حتى أصبحت مرتهنًا لا أملك قراري.”

فيما يدعو آخر إلى تدخل حكومي عاجل لوضع حد لهذه الممارسات التي تهدد استقرار القطاع، وتحوّل المنتجين من فاعلين اقتصاديين إلى رهائن لدوائر التمويل المهيمنة.

الحوكمة والفساد: غياب رقابة، حضور نفوذ

تطرح هذه الأزمة إشكالية الحوكمة في القطاع الزراعي، خاصة في ما يتعلق بغياب الرقابة على صفقات الأعلاف والأدوية البيطرية، وتراخي آليات الضبط في وجه الهيمنة المتزايدة لبعض الشركات على السوق.
وفي ظل انعدام الشفافية وغياب معطيات رسمية حول الكميات المُنتجة والمُصدّرة، تتزايد المخاوف من تواطؤ محتمل بين شبكات التسويق والتمويل، ما يضاعف معاناة المزارع الصغير والمستهلك على حد سواء.

موجات الحر… عبء إضافي على المزارعين

كما ساهمت موجات الحر المرتفعة خلال الأشهر الماضية في تفاقم الوضع. يؤكد الفاعل المهني “عبود” أن الضيعات الصغيرة، التي تفتقر لتقنيات التبريد والعزل، تكبّدت خسائر جسيمة بفعل نفوق الدواجن وتباطؤ نمو الكتاكيت.

هذا النقص في العرض ترافق مع زيادة الطلب خلال فصل الصيف، مما تسبب في ارتفاع أسعار الدجاج وبيض المائدة. ومع ذلك، فإن ارتفاع الأسعار لم ينعكس إيجاباً على أرباح المنتجين الصغار، الذين يعيشون تحت وطأة التكاليف والمديونية.

خاتمة: قطاع البيض بين الاحتكار والانهيار… أين الدولة؟

يتضح أن قطاع إنتاج البيض في المغرب يعاني أزمة متعددة الأبعاد: مناخية، تمويلية، تنظيمية، واحتكارية. وبينما يتعرض المزارع الصغير لخطر الإفلاس والإقصاء، تواصل بعض الشركات فرض قواعد لعبة غير متكافئة، دون رقابة فعالة أو حماية تشريعية كافية.

فهل تتحرك الحكومة لكسر هذا الاحتكار؟
وهل ستضع حداً لاستنزاف ضيعات البيض وتدهور الأمن الغذائي؟
الأسئلة كثيرة، والإجابات لن تأتي من البيانات الورقية، بل من ميدان الإنتاج الذي ينزف في صمت.