في تحوّل لافت على مستوى السياسات القضائية، كشفت معطيات رسمية عن انخفاض غير مسبوق في منسوب الاعتقال الاحتياطي بالمغرب، حيث بلغت نسبته بنهاية شهر ماي الماضي 30 في المائة من الساكنة السجنية، وهو ما وصفته الجهات الرسمية بأنه “رقم لم يسبق تحقيقه خلال السنوات السابقة”.
هذا التراجع اعتُبر إشارة إيجابية على صعيد حماية الحريات الفردية، ودفع برئيس النيابة العامة، هشام بلاوي، إلى توجيه دورية جديدة إلى الوكلاء العامين للملك ووكلاء الملك، تركّز على ضرورة ترسيخ الاعتقال الاحتياطي كخيار استثنائي فقط، لا كقاعدة في التعامل مع المتابعات القضائية.
من التوجيه المركزي إلى الممارسة الميدانية
لم تكتف الدورية الجديدة بالدعوة المبدئية، بل وضعت خطوطًا عملية للمضي في هذا الاتجاه، من خلال التأكيد على ترسيخ ثقافة قضائية تراعي حقوق الأفراد، وتعمل على تعزيز الثقة في القضاء كمؤسسة ضامنة للحرية، بما ينسجم مع مضامين السياسة الجنائية المغربية.
ولتدعيم هذا التحول، دعا بلاوي إلى الاعتماد على البدائل القانونية المتاحة مثل: السراح المؤقت بشروط، الكفالة، والمراقبة القضائية، إلى جانب تشجيع العدالة التصالحية في القضايا التي تسمح بذلك، وذلك كوسائل لتقليص اللجوء المفرط إلى الاعتقال الاحتياطي.
رفع اليقظة وتقصير آجال المحاكمة
في المقابل، شدّدت الدورية على ضرورة الرفع من مستوى اليقظة القضائية في تدبير ملفات المعتقلين احتياطيًا، من خلال إحالتها في أقرب الآجال على الجلسات، مع التنسيق المستمر بين الرؤساء الأولين للمحاكم ووكلاء الملك لتسريع البتّ فيها.
هذا التوجيه جاء كذلك لحثّ المسؤولين القضائيين على معالجة الصعوبات التي قد تعترض المسار القضائي للملف، مع الاستفادة من اجتماعات اللجان المحلية والجهوية التي سبق إحداثها بموجب الدورية المشتركة بين المجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة في يونيو 2023.
الاعتقال الاستثنائي لا ينبغي أن يصبح قاعدة
وفي لهجة تقترب من التنبيه، ذكّرت رئاسة النيابة العامة بأن ترشيد الاعتقال الاحتياطي مرتبط ارتباطًا وثيقًا بحرية الأفراد المكفولة دستوريًا، مشيرة إلى أن هذا النوع من التدابير يجب أن يُعتمد كملاذ أخير فقط، حينما تقتضي الضرورة حماية المجتمع والأفراد.
كما شدّدت الدورية على أهمية استحضار الحس الإنساني والقانوني عند اتخاذ قرار الاعتقال، باعتباره يمسّ بشكل مباشر حياة الأشخاص ومحيطهم، مشيرة إلى أن نتائج التنسيق بين مختلف المتدخلين أظهرت نتائج إيجابية في الأشهر الماضية، ولا بد من البناء عليها.
خلاصة
ما بين تراجع المعدلات وتحركات النيابة العامة، يبدو أن هناك اتجاها جديدًا لترسيخ مقاربة أكثر عقلانية وإنسانية في التعامل مع الاعتقال الاحتياطي، لكن التحدي الأهم يظل في التنزيل العملي لهذه التوجيهات داخل ردهات المحاكم، وتغيير العقليات القضائية التي قد ترى في التوقيف المؤقت خيارًا آمنًا وأسهل من البحث عن حلول بديلة.