“تشغيل على الورق”: 14 مليار درهم في مهب الوعود… فأين ذهبت مناصب الشغل؟

0
167

أرقام تصعد، وثقة تنكمش

بين خطاب حكومي يَعِد بإحداث 1.45 مليون منصب شغل جديد، وواقع اجتماعي تتصدره مؤشرات بطالة متصاعدة، يقف الرأي العام المغربي أمام معادلة عسيرة الفهم: كيف لحكومة تملك أغلبية برلمانية ومالية، وتضخ 14 مليار درهم في برامج التشغيل، أن تعجز عن وقف نزيف البطالة؟ بل أن تُسجَّل زيادات في المعدلات الوطنية بدل تراجعها؟

سؤالٌ يفرض نفسه بإلحاح في ظل تجدد الخطاب الرسمي حول ما سُمي “الخطة الشاملة لتقليص البطالة إلى 9٪ في أفق 2030″، كما قدمها رئيس الحكومة عزيز أخنوش خلال جلسة المساءلة الشهرية في مجلس المستشارين. لكن هذا الخطاب لم يكن كافيًا لتبديد الشكوك، بل زاد من حدة الجدل، خاصة مع الانتقادات التي صدرت من داخل الأغلبية نفسها.

وعد طموح… وواقع متدهور

في الجلسة المذكورة، كشف رئيس الحكومة عن خطة طموحة تقوم على ضخّ غلاف مالي يقارب 14 مليار درهم، موزع بين تحفيز الاستثمار (12 مليار درهم)، دعم الشغل في الفلاحة (1 مليار)، وتوسيع البرامج النشطة للتشغيل (1 مليار درهم)، إضافة إلى تكوين 100 ألف شخص في التدرج المهني بحلول 2025، واستهداف فئة غير الحاصلين على شهادات.

لكن المعطيات الميدانية تكذّب هذا التفاؤل. ففي الفصل الأول من سنة 2025، كشفت المندوبية السامية للتخطيط أن معدل البطالة بلغ 12.8%، مقابل 12.3% في نفس الفترة من السنة الماضية، بزيادة واضحة. بل الأخطر أن بطالة الشباب وصلت إلى 29.2%، فيما بلغت نسبة النساء العاطلات 19.8%. وكل هذا في ظل تفاوتات مجالية صارخة، تعمق التهميش في جهات كدرعة-تافيلالت والشرق.

التمويل حاضر، لكن الأثر غائب

رغم حجم التمويلات المعلنة، يظل الأثر الفعلي لهذه البرامج ضعيفًا. إذ لا توفر الخطة الحكومية مؤشرات تقييم مرحلية، ولا آليات رقابة صارمة لضمان الأثر التنموي للغلاف المالي.

فمثلاً، مبلغ 12 مليار درهم المخصص لتحفيز الاستثمار لا يرتبط بشروط واضحة تضمن خلق فرص شغل فعلية. بل يُقدَّم كتحفيز عام، دون توجيه للقطاعات أو الجهات أو الفئات المستهدفة. أما قطاع الفلاحة، فيظل هشًا وموسميًا، ومناصب الشغل فيه ظرفية، كما أشار إلى ذلك أكثر من تقرير رسمي، منها تقارير مجلس المنافسة والمندوبية السامية للتخطيط.

برامج قديمة بمضمون ضعيف

البرامج النشطة للتشغيل، من قبيل “إدماج” و”تحفيز”، رغم قدمها وتكرارها، لا تزال تعاني من الإشكالات ذاتها. دراسة منشورة في مجلة Formation Emploi أبرزت أن “إدماج”، رغم الإعفاءات الضريبية التي يمنحها للمشغلين، لم يُفضِ إلى توظيف دائم، بل إلى عقود مؤقتة تنتهي بانتهاء الدعم، دون تحسين في الأجور أو استقرار مهني.

أما تقرير Policy Center for the New South، فقد أكد أن هذه البرامج تعاني من ضعف في التتبع الفردي للمستفيدين، وغياب التنسيق المؤسساتي، وتفتقر لأدوات تقييم آثارها طويلة الأمد. وهو ما يفسر استمرار البطالة العالية في صفوف الشباب، رغم مرور أكثر من عقد على إطلاق هذه البرامج.

“أوراش” و”فرصة”: ما بعد الضجة الإعلامية؟

برنامج “أوراش”، الذي أطلق سنة 2022، وُصف بأنه حجر الزاوية في سياسة التشغيل، لكنه بقي حبيس العقود المؤقتة (6 إلى 9 أشهر)، مع غياب تكوين مواكب أو إدماج دائم. وانتهى المطاف بآلاف المستفيدين إلى العودة إلى البطالة.

أما برنامج “فرصة”، فرُوّج له كاستراتيجية جديدة لدعم ريادة الأعمال، لكنه اصطدم بعدة عراقيل: غموض في المعايير، ضعف في التتبع، غياب مواكبة مالية وتجارية. ورغم تمويل آلاف المشاريع، لم تُعلن الحكومة عن نسبة المشاريع التي استمرت بعد السنة الأولى، أو عدد مناصب الشغل الفعلية. والأسوأ أن عددًا من المستفيدين وجدوا أنفسهم عاجزين عن سداد القروض، في غياب تكوين أو دعم فعلي.

تكوين بالتدرج: حل استراتيجي أم بطالة مقنّعة؟

الخطة الحكومية الجديدة أولت أهمية لتكوين غير الحاصلين على شهادات عبر التكوين بالتدرج، وهي فكرة قد تبدو ملائمة لطبيعة سوق الشغل المغربي. لكن من دون تنسيق مع القطاع الخاص، ومن دون التزامات واضحة من أرباب العمل، هناك خشية من أن يتحول هذا التكوين إلى محطة إضافية من الانتظار والإقصاء، وليس إلى فرصة فعلية للاندماج.

خلل في المقاربة لا في التمويل فقط

الإشكال الأكبر لا يكمن فقط في تفاصيل البرامج، بل في غياب تصور شامل ومتكامل لمعضلة الشغل. إذ لا تزال الحكومة، كما الحكومات السابقة، تُقارب التشغيل كوظيفة للدعم المباشر أو للاستثمار العمومي، دون العمل على إصلاح المنظومة الاقتصادية الكلية التي تعاني من بيروقراطية معطلة، وبيئة أعمال غير جاذبة، وتراجع ثقة المستثمرين، وقطاع غير مهيكل يشغل الملايين بلا حماية.

انتقادات من الداخل: فشل جماعي؟

اللافت أن الانتقادات هذه المرة لم تأتِ فقط من المعارضة أو الصحافة، بل من داخل الأغلبية. إذ اعتبر المستشار البرلماني عبد اللطيف الأنصاري، عن الفريق الاستقلالي، أن مؤشرات التشغيل “غير مرضية”، وأنها “لا تتناسب مع حجم الجهود التنموية”. وهو تصريح يحمل في طياته إقرارًا ضمنيًا بالفشل الجماعي للتحالف الحكومي في ملف يُعد من أولويات البلاد، في ظل تنامي الهجرة السرية، والاحتقان الاجتماعي، وانكماش ثقة الشباب في مؤسسات الدولة.

النتيجة: تشغيل بلا جودة، وشباب بلا أمل

ليست المشكلة في عدد مناصب الشغل فقط، بل في جودتها وهشاشتها، وتزايد نسبة العاطلين من حاملي الشهادات العليا، وغياب حماية اجتماعية حقيقية. أكثر من 1.5 مليون مغربي يشتغلون في ظروف غير رسمية، دون تأمين أو تغطية صحية أو أجر قار، في ظل غياب أي سياسات مندمجة لإدماجهم في الاقتصاد الرسمي.

خلاصة: نموذج بلا فعالية… ومقاربة بحاجة لمراجعة

رغم ضخامة الغلاف المالي، وعناوين الخطط المعلنة، يظل الواقع المعيشي للعاطلين جامدًا، بل آخذ في التدهور. فالمشكل ليس في عدد البرامج، بل في غياب التقييم، وفي الانفصال المزمن بين السياسات العمومية وسوق الشغل الحقيقي.

لقد آن الأوان للانتقال من المقاربات الظرفية إلى سياسة تشغيل حقيقية، تبدأ بإصلاح مناخ الاستثمار، وتربط التكوين بالتشغيل، وتمنح الأولوية لحكامة البرامج، وتستثمر في بناء الثقة بدل تسويق الأرقام.