أزمة حدود السلطة: هل يعيش المغرب انزياحًا في فهم أدوار المؤسسات الدستورية؟
في مشهد سياسي وقانوني يزداد توترًا، فجّر وزير العدل المغربي عبد اللطيف وهبي جدلًا واسعًا بتصريحات صادمة طالت جوهر العلاقة بين المؤسسات الدستورية وصلاحيات البرلمان.
أمام نواب الفريق الاشتراكي بمجلس النواب، صرّح وهبي أن المؤسسات الدستورية “مجرد رأي” وأنه “لا سلطة لها للمطالبة بتغيير القوانين أو توجيه البرلمان”، مشددًا أن السلطة التشريعية هي حكر على البرلمان دون منازع.
حين يصبح التشريع “كله أو لا شيء”
اعتبر وهبي أن التعامل مع مشروع قانون المسطرة الجنائية لا يمكن أن يتم بانتقائية، بل يجب قبوله أو رفضه بالكامل، بحكم أن النص يحكمه منطق وفلسفة موحدة.
هنا يطرح السؤال الأول:هل التشريع فعلاً “كتلة صماء” لا تقبل التجزئة أو النقاش، أم أن طبيعة العمل التشريعي تستوجب التفاعل النقدي والتعديل المستمر؟
إذا سلّمنا بمنطق وهبي، فذلك يعني تقويض وظيفة البرلمان نفسه كفضاء للنقاش وإعمال العقل، وتحويله إلى مجرد غرفة للتزكية أو الرفض بالجملة.
فأين يصبح موقع الديمقراطية التي تتغذى أساسًا على الحوار والنقاش النقدي؟ وهل خطاب الوزير يُعبر عن تصور متوتر للعلاقة بين السلطة التنفيذية والتشريعية؟
اجتهاد القضاة: خطر على الديمقراطية أم ضمانة لها؟
في تصريح لافت، عبّر وهبي عن تخوفه من أن يصبح الاجتهاد القضائي “أكبر خطر على حقوق الإنسان”، بحجة أن السلطة القضائية قد تتمدد بشكل يتجاوز النصوص القانونية.
لكن: أليس الاجتهاد القضائي، في الديمقراطيات الحقيقية، جزءًا من تطوير القانون وتكريس حقوق الأفراد بدل تهديدها؟
ألا يفتح هذا التصور المجال نحو إعادة الهيمنة التنفيذية على القضاء، في وقت يفترض أن الاستقلالية القضائية أحد أهم مؤشرات الدولة الحديثة؟
ما قاله وهبي يعكس رؤية محافظة للغاية لوظيفة القضاء، تكاد تعيده إلى دور سلبي محض: تنفيذ النصوص دون تأويل أو تطوير، وهو ما يتناقض مع التراكمات التي حققتها تجارب دولية مرجعية.
المؤسسات الدستورية… بين الرأي والوظيفة
تصريحات وهبي حول المؤسسات الدستورية (“رأي فقط، ولا سلطة لها”) تطرح بدورها تساؤلات مقلقة:
هل يعيد الوزير تعريف دور المؤسسات التي يفترض أنها صمامات أمان للنظام السياسي والدستوري؟
هل المقصود تقييد عمل هيئات كالمجلس الوطني لحقوق الإنسان، ومؤسسة الوسيط، ومجلس المنافسة، وغيرها، التي ينص الدستور على أدوارها في التشاور والتنبيه والنقد؟
إذا كانت هذه المؤسسات “رأيًا فقط”، كما يروج وهبي، فما جدوى وجودها؟
بل أبعد من ذلك: هل يعكس هذا الموقف رغبة ضمنية في تقليص فضاءات الرقابة والمساءلة لصالح سلطة تنفيذية أكثر تغولًا؟
السياق السياسي الأوسع: أزمة قراءة للدستور؟
تصريحات وهبي لا تأتي في فراغ. إنها جزء من مناخ سياسي مغربي عام يتسم بتوتر متزايد حول مفهوم السلطة، توزيع الاختصاصات، وحدود التأويل الدستوري.
منذ سنوات، لوحظ تراجع لدور المؤسسات الوسيطة، وميل لاحتكار القرار بين يدي الحكومة أو بعض مراكز النفوذ.
فهل نحن أمام لحظة مفصلية تُعيد فيها بعض النخب السياسية تعريف الدستور بروح سلطوية متزايدة؟
وهل يمكن أن يؤدي هذا التمشي إلى مزيد من العزوف السياسي وفقدان الثقة المؤسساتية الذي تؤكده كل المؤشرات الوطنية والدولية؟
في الختام: أزمة عقل سياسي أم أزمة نصوص؟
الأزمة الحقيقية التي تكشفها تصريحات وهبي ليست مجرد خلاف تقني حول المسطرة الجنائية.
إنها تعبير عن أزمة عقل سياسي يتعامل مع الديمقراطية كترفٍ لا كجوهر، ومع المؤسسات كشكل لا كركيزة.
تبقى الأسئلة الجوهرية معلقة:
-
هل يحتاج المغرب إلى نصوص جديدة أم إلى روح جديدة في احترام الدستور؟
-
هل نعيش نهاية وهم الديمقراطية الواجهة، وبداية مرحلة “التشريع بالأمر الواقع”؟
-
ومن سيملك الشجاعة لإعادة التوازن بين السلطات، قبل أن تبتلع سلطة واحدة باقي الهياكل؟