تضارب المصالح… حين يتحوّل الاستثناء إلى قاعدة: قراءة في اتهامات بوانو ومسار أزمة الثقة داخل الحكومة

0
207

يبدو أن ملف الوزير محمد سعد برادة قد تجاوز منطق “الواقعة المعزولة” ليدخل، كما يوحي بذلك عرض عبد الله بوانو، في صلب نقاش أكبر: إلى أي حدّ ما يزال تضارب المصالح مجرد انزلاق فردي، وما الذي يجعل هذا النوع من الملفات يتكرر داخل بنية الحكومة بشكل يصعب تفسيره؟

في الندوة الصحافية التي عقدها رئيس المجموعة النيابية للعدالة والتنمية، لم يكن الهدف مجرد الكشف عن وثائق أو عرض محاضر. كان الأمر أشبه بتشريح سياسي لمشهدٍ يتداخل فيه الاقتصادي بالعمومي، وتتحوّل فيه الحدود القانونية إلى خطوط ضبابية لا تظهر إلا حين تنفجر الأزمة.

محاضر تحمل توقيع وزير… وتساؤلات تتجاوز حدود الواقعة

بوانو قدّم وثائق قال إنها لمحاضر اجتماعات مجلس إدارة شركة “فارما بروم”، تحمل توقيع الوزير برادة في يونيو 2025، ثم محضراً آخر في شتنبر يشير إلى “اعتذاره عن الحضور”.

من الناحية الشكلية، قد يبدو الأمر اختلافاً زمنياً بين حضور وغياب. لكن القراءة السياسية التي اعتمدها بوانو تجعل من هذا التباين “مؤشراً إضافياً” على استمرار علاقة الوزير بالشركة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، رغم أن القانون المنظم لعمل الحكومة يفرض قطعاً تاماً لأي علاقة تسييرية مع القطاع الخاص.

هنا، يتجاوز السؤال حدود صحة المحاضر أو دقتها، ليمسّ جوهر الإشكال: هل يمكن لمسؤول حكومي أن يحتفظ برابط مؤسساتي، ولو شكلياً، مع شركة تشتغل في قطاع حساس مثل الأدوية دون أن ينعكس ذلك على منطق الشفافية وثقة المواطنين؟

بين الوثيقة والسياق… أين يبدأ تضارب المصالح وأين ينتهي؟

ما يثير الانتباه، في التحليل، ليس مجرد وجود اسم الوزير في المحاضر. بل تلازم هذه المعطيات مع سياق سياسي وتنفيذي يتسم ـ كما يصفه بوانو ـ بنوع من “تطبيع الحكومة مع تضارب المصالح”.

الأمثلة التي أوردها ليست عابرة:

  • سحب قوانين الإثراء غير المشروع،

  • التساهل مع احتلال الملك البحري،

  • تعديلات قانون المقالع،

  • صفقات تحلية المياه،

  • وتجاذبات الاستثمار.

هذه القضايا، مهما اختلفت خلفياتها، تلتقي عند نقطة واحدة: سؤال النزاهة في صناعة القرار العمومي.

حين تتقاطع العلاقات الخاصة مع المنافع العمومية

النقطة الأكثر حساسية في مداخلة بوانو كانت الربط بين استمرار ارتباط الوزير برادة بشركته السابقة، وفوز الشركة نفسها بصفقات مهمة من وزارة الصحة التي يديرها وزير من الحزب نفسه.

الأرقام التي قدمها — 32 مليون درهم مع الوزارة، ثم ما بين 7 و50 مليون مع المراكز الاستشفائية الجامعية — ليست مجرد تفاصيل تقنية. إنها أحجار دومينو في معمار هشّ اسمه ثقة المواطن في الدولة.

ورغم أن قانون السوق العمومية لا يمنع الشركات الخاصة من التنافس، إلا أن السؤال الذي يحضُر دائماً في مثل هذه الحالات هو: هل يتنافس الجميع على قدم المساواة؟ أم أننا أمام دوائر مصالح مغلقة تتقاطع فيها سلطة القرار مع سلطة المنفعة؟

الخطاب الأخلاقي… أم عمق التحول السياسي؟

حين قال بوانو إن الوزراء “أخذوا من رئيس الحكومة هذه الصفة ويتمتعون بها”، فهو لم يكن يهاجم أشخاصاً بقدر ما كان يلمّح إلى ثقافة سياسية جديدة تتشكل داخل الحكومة.ثقافة تجعل من تضارب المصالح ليس خطأً معزولاً، بل “طريقة في التسيير” تُعاد إنتاجها من قطاع إلى آخر.

هذا الخطاب، كيفما اختلف تقييمه، يكشف عن فراغ تشريعي وأخلاقي في تدبير العلاقة بين رجال الأعمال والمسؤولين العموميين.

بوانو لم يقل إنه ضد رجال الأعمال، لكنه وجّه رسالة واضحة: حين يصبح المسؤول في موقع اتخاذ القرار، وفي الوقت نفسه شريكاً في بنية الاستفادة منه، تتحوّل السياسة من خدمة عامة إلى شبكة مصالح.

بين الإدانة السياسية والمحاسبة القانونية

من منظور التحليل السياسي، يكفي توقيع واحد في محضر اجتماع شركة خاصة ليخلق أزمة سياسية، حتى وإن لم يترتب عنه أثر قانوني مباشر. فالعمل الحكومي يقوم على القدوة والثقة والقدرة على تمثيل المصلحة العامة دون شبهة.

بوانو وصف وجود اسم الوزير في المحاضر بأنه “إدانة سياسية واضحة”. الإدانة السياسية ليست حكماً قضائياً، لكنها قد تكون أشد وقعاً لأنها تعيد طرح السؤال الأساسي: من يحرس نزاهة القرار العمومي في المغرب؟

أزمة ثقة تتعمّق… ودعوة إلى تحقيق عاجل

ختم بوانو عرضه بالدعوة إلى فتح تحقيق شامل، ليس فقط في مسار صفقات شركة “فارما بروم”، بل في طريقة تدبير الصفقات داخل وزارة الصحة، ومدى احترام قواعد منع تضارب المصالح داخل الحكومة.

هذه الدعوة، في جوهرها، ليست مجرد مطلب حزبي. إنها جزء من معادلة أكبر: استعادة ثقة المواطنين في المؤسسات، في وقت يشعر فيه الكثيرون بأن “الفساد لم يعد استثناء بل أصبح جزءاً من الممارسة الحكومية”، وفق توصيف بوانو نفسه.

خلاصة نظرية: ما الذي تقوله هذه القضية عن بنية الحكم؟

هذه الواقعة، سواء تأكدت تفاصيلها أو تم نفيها، تكشف شيئاً أعمق: أن الحدود الفاصلة بين السلطة الاقتصادية والقرار السياسي لم تعد واضحة، وأن الإطار التشريعي الحالي لا يكفي لسدّ الثغرات. كما تؤشر إلى أن الدولة في حاجة إلى آليات جديدة للشفافية، تسمح للمواطن بأن يرى — دون غموض — من أين تُتخذ القرارات، ولصالح من.

وفي النهاية، تبقى القضية مفتوحة، ليس لأنها لم تُحسم بعد، بل لأنها تعبّر عن سؤال أكبر من الأشخاص، وأعمق من الوثائق: كيف يمكن للحكومة أن تسترجع شرعية أخلاقية تآكلت بفعل تكرار حالات تضارب المصالح؟