“تقبيل يد العامل”.. مشهد عابر يفضح اختلالًا عميقًا في تمثلات السلطة بالقرى المغربية

0
266
الصورة : مواقع التواصل

في بلدٍ يفتخر بإصلاحاته الدستورية ومراهنته على ترسيخ دولة المؤسسات، لا يزال مشهد بسيط – كأن ينحني رجل قروي ليُقبّل يد عامل إقليم – كفيلاً بزعزعة هذا الخطاب، وكشف التوتر الدفين بين تمثلات السلطة الحديثة وواقع علاقة الدولة بالمواطن في هوامش المغرب العميق.

الحادث الذي وقع مؤخرًا في إحدى جماعات إقليم شفشاون، حيث أقدم مسن على تقبيل يد عامل الإقليم محمد علمي ودان خلال تدشين مشاريع تنموية، لم يمر مرور الكرام. فبقدر ما بدا العامل منزعجًا ورافضًا للفعل، بقدر ما أثار المشهد سيلاً من الأسئلة الوجودية حول العلاقة بين السلطة والمجتمع، خصوصًا في المناطق القروية، حيث يتداخل الاحترام بالهيبة، والطاعة بالخشية، والمواطنة بالرعية.

ما وراء السلوك: هل هو تقدير أم إرث من الخضوع؟

قد يُفسر البعض المشهد بوصفه فعلاً فرديًا نابعًا من “احترام تقاليد” أو “حسن نية”، لكن في عمقه يعكس استمرار تمثلات تقليدية للسلطة في أذهان فئات واسعة من المواطنين، لا سيما في العالم القروي. رجل السلطة لا يُرى كمجرد موظف يمثل إدارة عمومية، بل كشخصية ذات سلطة رمزية مطلقة، تُمثل الدولة بكل أبعادها.

هذه العلاقة غير المتكافئة تكشف عن عطب بنيوي في عملية “الانتقال الديمقراطي” التي تبناها المغرب منذ بداية العهد الجديد سنة 1999، والتي بشّرت بفهم جديد للسلطة، قوامه القرب من المواطن، والشفافية، والكرامة.

التحليل القانوني: السلوك خارج روح العصر

يرى الدكتور محمد يحيا، أستاذ القانون العام، أن هذه الممارسات تُعدّ “دخيلة على مغرب اليوم، ولا يمكن قبولها في ظل المفهوم الجديد للسلطة”. فالمجتمع المغربي، حسب يحيا، خطا خطوات هامة نحو الدمقرطة، وتقبيل يد رجال السلطة لا يليق بمواطنة ناضجة، حتى إن تم بحسن نية أو بحكم الأعراف.

ويُضيف أن “تقبيل اليد في الثقافة المغربية محصور تقليديًا في علاقتي الأبناء بوالديهم، أو المريد بشيخه، وتقبيل يد الملك له حمولة تاريخية وسياسية خاصة، لا تُقاس على موظفي الدولة المحليين”.

التمثلات الاجتماعية: أين فشلت الدولة؟

من جهته، يربط المحلل السياسي عبد الله أبو عوض الواقعة بثقافة العالم القروي التي لا تزال تحمّل رجل السلطة رمزية أكبر من وظيفته. “في ذهن الكثيرين، العامل هو الدولة”، يقول أبو عوض، مضيفًا أن الأمية، ومحدودية الوعي بالحقوق، والضعف في الثقافة القانونية، تجعل من هذه السلوكيات أمورًا عادية.

لكن الأخطر أن هذه التمثلات لا تنحصر في القرى النائية، بل قد تمتد بشكل غير مباشر حتى إلى بعض المدن الصغرى، حيث لم تنجح بعد مؤسسات الدولة في ترسيخ ثقافة المواطنة القائمة على التكافؤ بين المواطن والإدارة.

الإشكال أعمق من واقعة: فجوة بين خطاب الدولة وواقعها

الحادثة تُعيد التذكير بالتناقض بين الخطاب الرسمي حول الكرامة والحقوق، وبين ممارسات يومية تُكرّس التراتبية والتقديس الزائف لبعض رموز الإدارة الترابية. فمتى ستنتهي صورة رجل السلطة الذي لا يُسأل، ولا يُنتقد، والذي يجب على المواطن أن ينحني أمامه، لا أن يحاوره أو يطالبه بحقه؟

وفي الوقت الذي يربط فيه المغرب شراكات استراتيجية مع شركائه الأوروبيين، ويعرض نفسه كنموذج للاستقرار والديمقراطية في المنطقة، تظل هذه السلوكيات شوكة في خاصرة هذا الخطاب، لا سيما وأن هيئات دولية كمنظمة هيومن رايتس ووتش ومراكز كـ”فريدم هاوس” كثيرًا ما نبهت إلى الهوة بين التشريعات المتقدمة والممارسات على الأرض.

أسئلة حارقة يجب طرحها:

  • ما الذي يجعل مواطنًا في 2025 يُقبّل يد رجل سلطة؟

  • هل فشلت المدرسة والإعلام والمجتمع المدني في خلق مواطن ناقد لا خاضع؟

  • لماذا لا تتدخل وزارة الداخلية لتوجيه رجالها للقطع مع هذه المظاهر؟

  • وهل نحن أمام سلوك فردي أم مؤشر ثقافي أعمق؟

خلاصة: مشهد يلخص معركة لم تُحسم بعد

لا يمكن تقزيم الحدث في مجرد لحظة عاطفية لرجل مسن، بل هو مرآة لمعادلة غير متوازنة في علاقة الدولة بمواطنيها. ما لم تنخرط الدولة في تأطير ثقافي ومؤسساتي عميق يعيد الاعتبار لكرامة المواطن، ويُعيد رسم صورة رجل السلطة كمجرد موظف في خدمة الوطن، لا كشخص يُطاع بلا نقاش – فستبقى مثل هذه المشاهد تتكرر، وتُحرج المغرب أمام نفسه قبل أن تُحرجه أمام العالم.