“كارثة بهذا الحجم لا تضيع في لجان تحقيق تتلطى خلف حجج بيروقراطية. كل مسؤول رفيع كان على علم بوجود اختلالات وفساد في صفقات وزارة الصحة، أخل بواجبه ويجب ان يستقيل ويحاسب. نمط التقصير والاهمال والفساد أوصلنا إلى الإنهيار والكارثة. حان وقت المحاسبة. لا تهرب من المسؤولية”. هكذا قال الملك المفدى محمد السادس – حفظه الله-، في يوليو 2017، في خطاب انتقد فيه المشهد السياسي في البلد، داعياً إلى ضرورة تطبيق مبدأ “ربط المسؤولية بالمحاسبة” على كل الفئات المسؤولة دون استثناء. هذا المبدأ يرد في الدستور المغربي الذي ينص على ربط عدم إفلات المسؤولين عن تدبير الشأن العام، سواء أكانوا سياسيين أو وزراء أو منتخبين في مختلف المناصب، من المحاسبة عند ثبوت تورطهم في تقصير أو اختلالات مهنية. والسؤال الآن: إلى أي مدى سيُطبّق هذا المبدأ؟
على هامش المعركة ضد «كوفيد 19» وحملة التطعيم المتواصلة، كشف تقرير برلماني ،أن صفقة استيراد الكواشف البيولوجية لمرض كوفيد 19، تشوبها اختلالات كبيرة،واستغرب الاقتصار على الترخيص لمقاولة وحيدة باسترادها وتوزيعها، والتي بلغت 333 صفقة لمواجهة الجائحة.
وأكد، تقرير المهمة الاستطلاعية وجود خروقات قانونية للمبادئ والقواعد الأساسية لإبرام الصفقات العمومية، وهو ما ينبغي أن تترتب عليه مسؤولية قانونية، حيث يضرب مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بين المقاولات وهو مبدأ دستوري.
وسجل التقريرأن مديرية الأدوية والصيدلة في وزارة الصحة، وخلافا للقانون قامت بمنح صفقات تفاوضية لاقتناء مستلزمات طبية ومستحضرات لشركات مجهولة لا تتوفر على شواهد التسجيل، فضلا عن ازدواجية تعاملها مع طلبات تسجيل المقاولات، وضربها قواعد المنافسة الحرة والنزيهة، واشتغال مقاولات في مجال الأدوية والتجهيزات الطبية دون تراخيص.
وأكد التقرير أن الوزارة منحت صفقات لشركات غير مرخصة، في الوقت الذي لم تمنح فيه شركات أخرى التراخيص الاستثنائية خلال الجائحة رغم تقدمها بطلبات منذ فترة طويلة، ما يؤكد بشكل لا لبس فيه على محاباة بعض الشركات على حساب أخرى في الطلبيات العمومية.
كما لجأت الوزارة عند تعاقدها مع الموردين إلى تسريع مساطر الترخيص الاستثنائي وإصدار ترخيصات مستعجلة أو لاحقة على إبرام الصفقة لفائدة الشركات المستفيدة، في حين أن جزءا كبيرا من المهنيين كانوا يحتجون باستمرار على تجميد وتعطيل ملفاتهم لدى مديرية الأدوية، مما حرمهم من المشاركة في هذه الطلبيات.
وإضافة إلى محاباة بعض الشركات، فقد أبرمت الوزارة صفقات لمستلزمات طبية دون تحديد المواصفات الدقيقة والمطلوبة ودون الوقوف على فعاليتها، مثل كاميرات حرارية وألبسة طبية لا يمكن معرفة ما إذا كانت صالحة أم لا.
وسجل التقرير أن الوزارة تأخرت في إبرام وتنفيذ الصفقات، بشكل عطل السلطات الصحية عن مواجهة الجائحة في الوقت المناسب على الرغم من منحها الطابع الاستثنائي للجوء للطلبيات العمومية، وهو ما يعرض صحة المواطنين والعاملين للخطر إزاء هذا التأخر غير المبرر.
وأبرز التقرير أن وزارة الصحة لم تكن مستعدة لمواجهة الجائحة رغم تفشيها في العالم، ولم تتحرك إلا بعد وصولها للمغرب.
كما كشف التقرير أن الوزارة تجاوزت الاعتمادات المالية المتفق بشأنها والمتضمنة في الاتفاقية مع الوكالة المغربية للتعاون الدولي، مما يمثل تجاوزا واضحا لحجم الترخيص الحكومي المسموح به، إضافة إلى التحايل للحصول على المزيد من الأموال.
وبخصوص بعض الصفقات المرتبطة بالمستلزمات الطبية، فقد أكد التقرير أن درجة حماية الكمامات الجراحية مجهول لحد الآن، فالوزارة لم تمنح أي شهادة تسجيل للكمامات الجراحية منذ بداية الجائحة، ولم يتم منح أي اعتماد قانوني للشركات المصنعة، وهو ما يعرض سلامة الأطر الصحية للخطر، وهي تعتقد أن نسبة حماية الكمامات هي 90 في المائة، في حين أن نسبة الحماية الحقيقية غير معروفة.
وبخصوص المعقمات، فلم تسلم صفقاتها بدورها من شبهات الفساد بشكل يعرض سلامة الأطر الصحية والمواطنين للخطر، فقد بادرت مؤسسات استشفائية تابعة لوزارة الصحة إلى التعاقد مع شركات غير مرخصة، وفي بعض الحالات تم سحب المعقم من السوق أو توقيف إنتاجه بعد الانتقادات، فضلا عن الاختلالات القانونية والمحاباة التي شابت صفقات هذا المنتوج.
وأكدت المهمة الاستطلاعية أن الوزارة تعاقدت مع شركات غير مسجلة في اقتناء معقمات كحولية لا تستجيب لشروط الصحة والسلامة، مما يشير إلى وجود تبديد للمال العام، وتعريض صحة وسلامة وحياة الأطر الصحية وعموم المواطنين لمخاطر حقيقية.
كما أبرز التقرير تأخر وزارة الصحة في إبرام صفقات تتعلق بالأكسجين رغم أن الحاجة كانت ملحة نظرا لتزايد الطلب وارتفاع الضغط على أسرة الإنعاش، مما جعل بعض الأسر تلجأ لاقتناء أجهزة وتشغيلها في المنزل، في وقت عانت فيه المستشفيات من نقص الأكسجين بشكل من شأنه التسبب في ارتفاع الوفيات. ولم تسلم صفقات الكشوفات وتحاليل كوفيد بدورها من اختلالات رصدها التقرير.
وتبين وفق الكواشف منتهية الصلاحية، وفق المصدر ذاته، أن وزارة الصحة عادت لتعقد صفقات أخرى مع الشركة ذاتها، إذ تعاقدت معها في “صفقة تفاوضية رقم 58 بمبلغ أزيد من 62 مليون درهم لنفس الغرض، والصفقة رقم 91 بملغ 2363436,36 درهما لاقتناء ما يتعلق بتلك الكواشف consommables، والصفقة رقم 15 بمبلغ 1.014,444,00 درهم، رغم الاختلالات المثارة بخصوص الصفقة رقم 29 سالفة الذكر”.
وأشار تقرير المهمة الاستطلاعية أيضا إلى ملاحظات بخصوص تعامل وزارة الصحة مع الوكالة المغربية للتعاون الدولي، موضحا أنه “تم تحويل الاعتمادات المالية من قبل وزارتي الصحة والمالية عبر قرارات مشتركة من الحساب الخصوصي للصيدلية المركزية، وذلك لفائدة هاته الوكالة، بما مجموعه 862 مليون درهم، على الرغم من أن الاتفاقية كانت تنص على مبالغ في حدود 700 مليون درهم، وهو ما يعتبر مخالفة صريحة لأحكام الفصل 41 من المرسوم الملكي المتعلق بالمحاسبة العمومية، وتجاوز واضح لحجم الترخيص العمومي المسموح به”.
ما المانع من تطبيق مبدء “ربط المسؤولية بالمحاسبة”؟
يرى العلام أن العوائق أمام تنزيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة تكمن في الجانب الدستوري. ويشرح: “إذا كان الدستور جاء بهذا المبدأ فإن هناك فصولاً فيه تمنع تطبيقه”، مشيراً إلى المواد التي تمنح “صلاحيات واسعة للمؤسسة الملكية”. وإنْ كان لا ينفي وجود صلاحيات ممنوحة للمنتخَبين من برلمانيين ليحاسبوا ويسائلوا المسؤولين الكبار على تجاوزاتهم، إلا أن الإشكال، برأيه، يكمن في غياب الجرأة لديهم.
وقال العلام: “المفروض من البرلمانيين أن يوظفوا صلاحياتهم في محاسبة كبار المسؤولين، ونفس الشيء بالنسبة إلى رئيس الحكومة”. وأضاف: “المشكلة أن هؤلاء المنتخبين لا يسائلون المسؤولين ويتركون الأمر للمؤسسة الملكية”. يتفق بناجح مع رأي العلام حول عدم توافر الجرأة الكافية لدى الحكومة والمنتخبين لمحاسبة المتورطين في ملفات الفساد، مؤكداً أن “الحكومة لم تستطع حتى أن تعلن لوائح المتورطين في الفساد فما بالك في أن تطبق هذا المبدأ؟”.