تمويلات أوروبا للمغرب في ملف الهجرة: أموال لحراسة الحدود أكثر من حماية الإنسان

0
246

بين سنتي 2014 و2025، حصل المغرب على تمويلات أوروبية ضخمة في مجال الهجرة، غير أن دراسة تحليلية حديثة كشفت أن 80 بالمائة من هذه التمويلات وُجهت إلى مراقبة الحدود والشق الأمني، مقابل مبالغ محدودة للغاية خُصصت لحقوق المهاجرين والاندماج. هذا الرقم ليس مجرد إحصاء مالي، بل مرآة لسياسة كاملة تعيد تعريف مفهوم “التعاون” بين الاتحاد الأوروبي والمغرب، وتفتح أسئلة مقلقة حول طبيعة العلاقة:

هل يُراد من المغرب أن يكون “شريكًا إنسانيًا” أم “حارسًا للبوابة الجنوبية” لأوروبا؟

خلفية التحول: من التعاون التنموي إلى التفويض الأمني

بدأت ملامح هذا التحول سنة 2014، حين أطلقت أوروبا “الصندوق الائتماني الطارئ لإفريقيا” بقيمة ملياري يورو، وهو ما شكّل انطلاقة مرحلة جديدة من التعاون مع دول الجنوب في مجال الهجرة.

لكن ما لبثت الأولويات أن تغيرت، خصوصًا بين عامي 2018 و2020، حين ارتفع ضغط المهاجرين نحو إسبانيا عبر مضيق جبل طارق، فتم توجيه أكثر من 170 مليون يورو للمغرب لإدارة الحدود.

في المقابل، بقيت مشاريع الاندماج والمواكبة الاجتماعية للمهاجرين هامشية. منذ تلك اللحظة، بات واضحًا أن منطق الأمن يسبق منطق الحقوق في مقاربة الاتحاد الأوروبي.

المنطق الأوروبي: هاجس السيطرة على الحدود

يبدو أن الاتحاد الأوروبي، تحت ضغط داخلي من صعود الأحزاب الشعبوية والمعادية للهجرة، قرّر أن يبرهن لناخبيه أنه “يتحكم في الموقف”. فبدل الاستثمار في الإدماج الاجتماعي للمهاجرين أو في دعم التنمية بالمغرب كمصدر للهجرة، اختار الحل الأسهل سياسيًا: تمويل المراقبة، والتقنيات، والدعم اللوجستي للأجهزة الأمنية.

بهذا المعنى، صار المغرب منفذًا عمليًا لما يسميه الباحثون في دراسات الهجرة “التفويض الخارجي للسياسات الأوروبية”، أي نقل عبء المراقبة إلى دول الجوار مقابل تمويلات مالية وتقنية.

موقع المغرب في المعادلة: شريك أم منفذ؟

المغرب يجد نفسه اليوم في موقع مزدوج:

  • من جهة، يستفيد من التمويلات الأوروبية، ويحافظ على علاقة استراتيجية مع الاتحاد الأوروبي.

  • ومن جهة أخرى، يتحول تدريجيًا إلى منطقة عازلة تمارس فيها أوروبا رقابتها المباشرة وغير المباشرة.

هذا الوضع يطرح سؤالًا سياسيًا حساسًا: هل تُستخدم الشراكة مع الاتحاد الأوروبي لخدمة “رؤية وطنية للهجرة” تُراعي حقوق المهاجرين، أم أنها تُختزل في وظيفة أمنية تخدم أجندات الخارج؟

البعد الإنساني: من “الحماية” إلى “الاحتواء”

في الخطاب الرسمي الأوروبي، يُذكر كثيرًا مصطلح “حماية المهاجرين”، لكن الأرقام تُظهر أن الحماية لم تعد سوى واجهة رمزية. فتمويل برامج “حقوق المهاجرين” لم يتجاوز 32 مليون يورو خلال عشر سنوات، أي ما يُعادل أقل من 4% من إجمالي التمويل. وفي المقابل، استفادت أجهزة المراقبة الحدودية من مئات الملايين لتحديث الرادارات والمعدات وتكوين وحدات الأمن. أما المهاجرون أنفسهم، فقد ظلوا يعيشون على هامش الحماية الاجتماعية، خصوصًا في فترات الأزمات مثل جائحة كوفيد، حين لم تشملهم أغلب آليات الدعم الوطني.

نتائج المعادلة المختلّة

تظهر انعكاسات هذه السياسات في الواقع اليومي للمهاجرين بالمغرب:

  • ضعف إدماجهم في التعليم والتكوين وسوق الشغل.

  • استمرار صور التمييز الثقافي والاجتماعي تجاه المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء.

  • غياب وضوح في الإطار القانوني الوطني للهجرة واللجوء.

  • تركيز مفرط على الأمن، ما يضعف الثقة بين المهاجرين والسلطات.

هكذا، يتحول التمويل الأوروبي إلى أداة ضبط أكثر منه وسيلة تنمية، مما يثير مخاوف حقوقية وإنسانية متزايدة.

أزمة المفهوم: أمن بلا تنمية وحقوق بلا تمويل

من الناحية النظرية، تعلن أوروبا أنها “توازن بين الأمن والإنسانية”.لكن التطبيق الميداني يُظهر أن الأمن استحوذ على النصيب الأكبر، فيما ظلت البرامج الحقوقية مجرد لافتة لتجميل الصورة.

في المقابل، لم تُطوّر الحكومة المغربية ميزانية وطنية مستقلة كافية للهجرة واللجوء، مما يجعلها رهينة التمويل الخارجي. والسؤال هنا: إلى متى ستظل السياسة الوطنية للهجرة تعتمد على تمويل مشروط لا يخدم المصلحة الوطنية ولا يحمي الإنسان المهاجر؟

مقترحات الدراسة: نحو نموذج بديل

الدراسة الصادرة عن شبكة Migrapress دعت إلى مراجعة جذرية في النموذج القائم، عبر:

  • تحويل نصف التمويلات الأوروبية نحو مشاريع الاندماج الاقتصادي والاجتماعي والهجرة القانونية.

  • تحديث قانون اللجوء والاستراتيجية الوطنية للهجرة واللجوء بما يضمن الحماية والمساءلة.

  • إحداث اتفاقيات شفافة مع الدول الأوروبية للعمل والدراسة والهجرة الدائرية.

  • تعزيز التكوين في مجال حقوق الإنسان داخل الأجهزة المكلفة بتدبير الحدود.

هذه المقترحات لا تمثل فقط إصلاحات تقنية، بل إعادة تعريف للعلاقة بين الأمن والتنمية في السياسات العمومية.

قراءة تحليلية: بين الواقعية والانتقائية

من الناحية الواقعية، قد يجادل البعض بأن التركيز على الأمن ضرورة لوقف الهجرة غير النظامية، خصوصًا مع تصاعد شبكات الاتجار بالبشر.

لكن من الناحية الأخلاقية والإنسانية، لا يمكن لأي سياسة هجرة أن تكون ناجحة ما لم تجعل من الإنسان محورًا لها. إذ كيف يمكن محاربة التهريب دون بدائل قانونية؟ وكيف يمكن ضبط الحدود دون إدماج المهاجرين وضمان كرامتهم؟

نحو مقاربة متوازنة: الإنسان أولاً

إنّ الهجرة ليست تهديدًا، بل ظاهرة إنسانية واقتصادية واجتماعية تحتاج إلى إدارة ذكية، لا إلى قمعٍ ممنهج. المطلوب اليوم ليس مزيدًا من الأبراج الحرارية والكاميرات الذكية، بل استثمار في الإنسان: تعليم، إدماج، تكوين، تشغيل. ذلك وحده كفيل بتحويل المهاجر من “خطر محتمل” إلى طاقة إنتاجية وإنسانية تساهم في التنمية المشتركة.

أسئلة مفتوحة للنقاش

  • هل يمكن للمغرب أن يحرّر سياساته من هيمنة التمويل الأوروبي؟

  • هل يمكن للاتحاد الأوروبي أن يرى في المغرب شريكًا في التنمية لا مجرد حارس للحدود؟

  • وهل يمكن للهجرة أن تتحول من “ملف أمني” إلى مشروع إنساني وتنموي يعيد تعريف الشراكة بين الشمال والجنوب؟

خاتمة: شراكة تحتاج إلى ضمير

ليست القضية في التمويل نفسه، بل في النية التي توجهه: هل يراد به بناء جدار آخر في وجه الجنوب، أم جسرٍ جديد للتعاون والتبادل؟ ما تكشفه الأرقام هو أن المال وُجّه للأسلاك الحديدية أكثر من البشر، وللحدود أكثر من الأمل.

لكن إذا أرادت أوروبا أن تكون “قوة قيم” بحق، فعليها أن تستثمر في الإنسان قبل الحدود. وإذا أراد المغرب أن يكون “بلد الاستقرار والهجرة القانونية”، فعليه أن يجعل من كرامة المهاجرين جزءًا من كرامته الوطنية.