جوائز تسليم الأوسكار لأحسن الأفلام السينمائية بهوليوود هي مناسبة للإبهار والسطوع وإظهار بريق الجمال واللباس والموضة والحلي. وهي كذلك مناسبة لصناعة الحلم حيث عادة ما يكون الكلام موزونا، يلقي خُطَبَه القصيرة ممثلون أو مخرجون أو منتجون تغْلُب عليهم مشاعر الفوز ليقولوا عبارات الشكر تحت ضغط الكاميرات وعيون المئات من أعضاء الأكاديمية. قليلا ما تُزعزِع هذا العالم الساحر، هذه اللحظة الحالمة، هموم العالم من فقر، ورعب وحروب. ولكن هذا الواقع قد يتسلل من وقت لآخر، لا ليقوض على الفائزين فرحتهم، ولكن ليضع سحر اللحظة جنبا إلى جنب مع صدمة الواقع الحقيقي بعنصريّته وظلمه وآليات القتل التي هي المعيش اليومي للكثير من الشعوب ومناطق المعمور ولأهل غزة منذ خمسة شهور.
هذا ما وقع يوم 11 مارس/آذار 2024 لحظة تسليم جوائز الأوسكار لأحسن الأفلام السينمائية بهوليوود هذه السنة. خلق جوناثان كلايزر الحدث حين تسلم جائزة أحسن مخرج عن فيلمه “منطقة الاهتمام” والذي اعتمد فيه بشكل فضفاض على رواية مارتين أيميس والتي تحمل نفس الاسم (2014). الفيلم، والذي تم عرضه لأول مرة في مهرجان كان، في مايو/أيار 2023، يحكي حياة أسرة قائد معسكر الاعتقال السيء الذكر، أوشويتز، تعيش في “منطقة الاهتمام” جنبا إلى جنب، وبشكل “طبيعي” مع المعسكر الذي تتم فيه الإبادة الصناعية لليهود إبان الحرب العالمية الثانية.
في الكلمة التي ألقاها بمناسبة تسلُّمِه جائزة الأوسكار قال كلايزر بأن “كل الاختيارات” التي أقدموا عليها كمنتجين ومخرجين للفيلم تم “القيام بها لدفعنا للتفكير مليا ومواجهة الحاضر. لكي نقول: لا، ‘انظروا لما فعلوه بنا’ ولكن بالأحرى، ‘انظروا لما نقوم به الآن’.” ليختم هذا المقطع من تدخله قائلا بأن الفيلم هو محاولة لفهم “العواقب الوخيمة لنزع الإنسانية” عن الآخر. ونزع الإنسانية عن الآخر وشيطنته، حسب كلايزر، هو أصل ما وقع في السابع من أكتوبر/تشرين الأول وما يقع في غزة منذ ذلك الوقت من قتل وذمار.
ولكن المقطع الذي أثار ضجة ما بين مناصرين ومنتقدين (بعنف) هو حين صرَّح كلايزر باسم الفريق الذي قاد إنتاج الفيلم، الذي حصد مجموعة من الجوائز، قائلا “في الوقت الحالي نقف هنا كرجال يدحضون كيف أن يهوديتهم والهولوكوست اختُطِفا من قبل احتلال أدى إلى ذمار كثير من الأبرياء، سواء في السابع من أكتوبر/تشرين الأول أو من خلال الهجوم الحالي على غزة.” هذه هي الشعرة التي قضمت ظهر البعير والتي جعلت الكثير من الصهاينة في أمريكا وإسرائيل يهاجمونه، حتى وأن بعضهم لم يقرؤوا جيدا ما قاله فهاجموا تخليه المُفترَض عن يهوديته وهو أمر غير صحيح.
ما هي دلالة ما قاله كلايزر والتي جعلت طرفا يهاجمه وطرفا آخر يهنئه على شجاعته. أولا، إنه بجرة قلم يقوض الافتراض السائد منذ فترة على أن الهولوكوست هي محنة فريدة لا يمكن مقارنتها مع حوادث إبادة أخرى، كما لا يمكن منع اليهود الحاليين من استعمالها لتبرير أي عمل يقومون به يعتبرونه درءا لخطر إعادة نفس الإبادة ضدهم. حين قال كلايزر بأن عيْنه كانت على الحاضر بقدر ما كانت على الماضي، فإنه يعني الاحتلال والتطهير اللذين كانت تقوم بهما إسرائيل قبل السابع من أكتوبر/تشرين (لقد تم تقديم الفيلم لأول مرة للجمهور ستة أشهر قبل حوادث غزة)، ولكن الإبادة التي تحْدُثُ في غزة حاليا أعطت للفيلم “راهنية مفرطة” كما قالت ناعومي كلاين ( “فيلم ‘منطقة الاهتمام’ يدور حول خطر تجاهل الفظائع – بما في ذلك في غزة” ، الغارديان، 14 مارس/آذار 2024) وجعلت كلايزر يفكك بجملتين واحدتين تفرُّد الهولوكوست وكذا اختطافَه من طرف إسرائيل لتبرير الاستيطان والعنف ضد الفلسطينيين.
لهذا سمَّت ناعومي كلاين خطابه أمام أكاديمية الأوسكار بالقنبلة (المصدر نفسه). ما يهم كلاين في تحليلها للفيلم هو أن شخوص الفيلم، خصوصا عائلة ردولف هوس، قائد معسكر الاعتقال الجماعي، والذين يعيشون يوميا في علاقة مباشرة مع معسكر الموت والتقتيل، ليسوا وحوشا، بل هم أشخاص عاديون أو كما وصفهم كلايزر “أشخاص أهوال لا يفكرون، بورجوازيون، لا يهتمون إلا بطموحاتهم المهنية»، أي أشخاص استطاعوا “أن يحوِّلوا الشر الذي بجوارهم إلى ضوضاء بيضاء” كما تقول كلاين (المصدر نفسه). وما يومئ له كلايزر وكلاين هو أن الإسرائيليين العاديين الذين تعايشوا مع الشر الذي كان يقع يوميا بمقربة منهم في الضفة والقطاع قبل الأحداث الحالية كانوا مثل عائلة هوس والشخوص الأخرى في الفيلم: تمكنوا من تحويل الأذى والمصيبة إلى صخب أبيض آت من وراء السور.
وفي الحقيقة هذا ما يقع الآن مع الكثير ممن يريدون تجاهل ما يحدث في غزة. يعرفون أنه شر وتقتيل وفظائع، ولكنهم ينظرون إليه على أنه شر لا بد منه (لإلحاق الهزيمة بحماس) أو هو شر يقع هناك “وراء السور”، أو في منطقة “لا تعرف إلا العنف” (حسب الكثير من المحللين في الغرب). النتيجة ليس فقط التطبيع مع الفظيعة، ولكن مع الإبادة ومع تجاهل القانون الإنساني الذي وُضِع أصلا لكي لا تقع إبادات جديدة مثل التي وقعت في الحرب العالمية الثانية.
هذا قريب مما سمته هانا آرندت “تفاهة الشر”، أي كيف لشخص سخيف مثل أدولف آيخمان أن يقوم بأفعال فظيعة مثل إرسال ما بين نصف مليون وثمانمائة ألف يهودي إلى أفران المحرقة؟ ( هانا آرندت، “أيخمان في القدس: تقرير حول تفاهة الشر”، 1963). نفس السؤال يمكن طرحه بالنسبة لغزة: كيف لجنود إسرائيليين بلغوا من السخافة أن يأخذوا لهم صور مع لُعَب أطفال فلسطينيين أو ملابس داخلية لنساء فلسطينيات، أن يقترفوا أكبر جريمة عرفها التاريخ، مصورة بشكل مباشر من طرف الضحايا أنفسهم؟ لا يعني هذا أن الصور ليست بشِعة في حد ذاتها ولكن الرعونة تبين أشخاصا تافهين يشبهون أبله الحي ولكن قادرين على تنفيذ الإبادة بدم بارد.
لهذا فكلايزر بخطابه القصير، بقنبلته الخطابية، لم يفكك فقط مقولة فرادة الهولوكوست أو “البراءة الأبدية” لمن يستعملونه لحماية ضحاياه المحتمَلين، ولكنه أذْعَرَ الكثير وأفزعهم حين قال بأن نزْع الإنسية عن الآخر تولِّد تطبيعا فكريا وأيديولوجيا وعاطفيا مع الشر ،مع البائقة والشؤم، شؤم الإبادة الجماعية في غزة. ما أحوج الغرب لأمثال كلايزر الذي يصدم بقوله إن التطبيع مع الإبادة هو مساهمة في الإبادة، والسكوت عن الشر هو شر في حد ذاته.