جيل الحيرة والثقة المفقودة: حين يخاطب أوزين جيل Z المغربي بلسان الدولة والمجتمع

0
321

في لحظة دقيقة من التاريخ المغربي، حيث تتقاطع الخيبة السياسية مع الحلم المؤجل لجيل جديد، اختار محمد أوزين، الأمين العام لحزب الحركة الشعبية والوزير السابق للشباب والرياضة، أن يوجّه خطابه إلى جيل “زد” عبر منصة أنستغرام، في خطوةٍ غير مألوفة من سياسيٍ محسوب على حزبٍ تقليدي.

لم يكن الخطاب مجرد تواصل عابر، بل بدا كأنه محاولة لردم الهوّة بين الجيل الجديد الباحث عن المعنى، والمؤسسات التي فقدت القدرة على إقناعه.

منذ كلماته الأولى، بدا أوزين واعيًا بتعدد ردود الأفعال التي تثيرها رسائله: هناك من فهمها، وهناك من شكك فيها، وآخرون استساغوا الطرح دون اقتناع. تلك التعددية ليست تفصيلاً، بل هي مرآةٌ لأزمةٍ أعمق: أزمة ثقة شاملة تمتد من الفرد إلى المؤسسة، ومن الشارع إلى الدولة.

لم تعد المشكلة في الشباب الذين يعزفون عن المشاركة، بل في المنظومة التي لم تعد قادرة على إقناعهم بأن المشاركة تُحدث فرقًا.

أوزين يربط هذه الأزمة بالحراك الاجتماعي المتكرر، من احتجاجات المعلمين إلى المظاهرات التي طالبت بتدخل مباشر من الملك، متجاوزةً الأحزاب والحكومة. هذا التجاوز لم يكن موجّهًا ضد الدولة، بل ضد وسطاء السياسة التقليديين الذين لم يعودوا يمثلون نبض الشارع.

ومن خلال استحضاره لتفاعل المؤسسة الملكية مع تلك المطالب، يذكّر أوزين بأن الدولة ما زالت تملك أدوات الإصلاح والاستجابة، شرط أن تُفعَّل داخل مشروع العدالة الاجتماعية الذي دعا إليه الملك محمد السادس في خطابه الأخير أمام البرلمان.

اللافت أن أوزين لا يقف عند حدود التحليل السياسي، بل يحاول تقديم تصور بديل للعلاقة بين المواطن والدولة. فحين يتحدث عن العدالة الاجتماعية، لا يراها شعارًا فضفاضًا، بل توجّه دولة بدأ منذ المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، ويمتد اليوم إلى إصلاحات التعليم والصحة وبرامج التشغيل. ويُعيد التأكيد على أن الثقة لا تُبنى بالوعود، بل بالنتائج الملموسة، وأن التغيير الحقيقي لا يتحقق في الشارع وحده، بل داخل المؤسسات.

لكن هنا، وسط هذا الخطاب المفعم بالدعوة إلى “الانخراط”، يطفو السؤال الذي لم يطرحه أوزين صراحة:

هل الأحزاب التي يدعو إليها الشباب مستعدة فعلًا لاستقبالهم؟

فالمعضلة الأعمق ليست في عزوف جيل “زد” عن السياسة، بل في طبيعة الأحزاب نفسها. فمعظم الأحزاب المغربية، رغم تعددها، ما تزال تُدار بعقلية مغلقة، تُهيمن عليها نخب قديمة ترفض التنازل عن مواقعها.

الشاب الذي يحاول اليوم دخول حزب سياسي، لا يواجه فقط البيروقراطية، بل ثقافة تُعامله كدخيلٍ لا كفاعل. وفي كثير من الحالات، يحتاج إلى أن “يُقاتل” من أجل وضع قدمه داخل التنظيم، لأن المناصب القيادية تُوزَّع غالبًا وفق الولاءات لا الكفاءات.

إنها المفارقة الكبرى في خطاب أوزين: فهو يدعو الشباب إلى دخول عالمٍ لم يفتح أبوابه لهم بعد. فالانخراط في الأحزاب لا يعني فقط التسجيل والانتماء، بل مواجهة بنية تنظيمية تقاوم التجديد، وثقافة سياسية ما تزال تنظر إلى الشباب باعتبارهم “متدربين في الديمقراطية”، لا شركاء في صياغتها.

فهل يدرك أوزين أن التحفيز على المشاركة دون إصلاح الأحزاب نفسها هو معادلة ناقصة؟

إن واقع التنظيمات الحزبية في المغرب — كما تُظهر دراسات متعددة — يعاني من شيخوخة داخلية وهيمنة للزعامات التاريخية، مما يجعل أي محاولة للتجديد محفوفة بالرفض أو التهميش.

النتيجة أن كثيرًا من الشباب يختار الانسحاب من السياسة الحزبية إلى فضاءات بديلة: مواقع التواصل، الجمعيات، أو المبادرات الفردية التي تبدو أكثر صدقًا وفاعلية من قاعات الاجتماعات الحزبية.

لكن أوزين، رغم إدراكه لتلك التناقضات، يصر على أن الحل يبدأ من الداخل. فبدل الهروب من المؤسسات، يدعو الشباب إلى دخولها لتغييرها، لا لشرعنتها. “إذا كنتم تعتبرونها فاسدة”، يقول، “فادخلوها ونقّوها من الداخل.” وهي دعوة جريئة في ظاهرها، لكنها تصطدم بواقعٍ معقد: كيف يمكن تغيير بنية لا تمنحك حتى حق المشاركة؟

هنا، تبرز أهمية السؤال الأخلاقي والسياسي معًا: هل يمكن لجيلٍ يعيش في زمن السرعة والشفافية أن يتأقلم مع بطء القرار الحزبي وثقافة الولاءات؟ هل يستطيع جيل “زد” أن يُعيد تشكيل السياسة من داخلها، أم أن الأحزاب تحتاج إلى ثورة داخلية قبل أن تستقبلهم؟

ولعل ما يمنح خطاب أوزين نكهته الخاصة هو مزجه بين الواقعية والإيمان بالجيل الجديد. فهو يستحضر رموزًا من تاريخ المغرب — من محمد الخامس إلى الحسن الثاني — ليضع محمد السادس في استمرارية مشروع الدولة الحديثة، دولة العدالة والتنمية البشرية.

لكنه في الآن نفسه، يذكّر الشباب بأن الوطن لا يُبنى بالحماس وحده، بل بالعمل والمؤسسات، وأن الحلم لا يكتمل إلا حين يتحول إلى فعل جماعي.

وفي مشهدية عاطفية، يستدعي أوزين إنجازات الشباب المغربي في كرة القدم، الذين رفعوا راية المغرب في المحافل الدولية، ليقول إن النجاح ممكن متى توفرت الإرادة والإيمان.

لكن، هل تكفي النجاحات الرياضية لبناء الثقة السياسية؟ربما، كما يوحي خطابه، هي مجازٌ لقدرة الجيل نفسه على تجاوز الحدود، حين تُتاح له الفرصة. فالمسألة في النهاية ليست في غياب الكفاءة، بل في غياب القنوات التي تسمح لها بالظهور.

إن خطاب أوزين يفتح أسئلة أكثر مما يُجيب عنها، لكنه يقدّم ما يشبه المرآة لجيل الحيرة والثقة المفقودة.

جيل يعيش بين الرغبة في المشاركة والخوف من التكرار، بين الحلم بدولة عادلة والشك في قدرتها على الإصغاء. وإذا كانت رسالته قد لامست الوجدان، فإن اختبارها الحقيقي سيكون في الفعل: هل سيتحوّل هذا الجيل من التعليق إلى الفعل، من الاحتجاج إلى التنظيم، ومن الغضب إلى الإصلاح؟ وهل ستكون الأحزاب، وعلى رأسها حزب أوزين نفسه، مستعدة فعلاً لأن تفتح أبوابها على مصراعيها أمام طاقة جديدة تهدد توازنها الداخلي لكنها قد تُنقذها من الانقراض السياسي؟

إنها لحظة مفصلية في العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين الشباب والسياسة.

الكرة اليوم ليست فقط في ملعب الشباب، بل أيضًا في ملعب الأحزاب التي عليها أن تختار: إما أن تتجدد عبرهم، أو تُدفن بثقل ماضيها.