في لحظة وطنية مفصلية، وفي سياق دقيق تحكمه تحديات اجتماعية واقتصادية متراكمة، حمل الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى 26 لعيد العرش، توجيهات صريحة تُعلن الانتقال إلى جيل جديد من السياسات التنموية، داعياً إلى ميثاق وطني متجدّد للتنمية الترابية، يقوم على الالتقائية، والفعالية، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وتحقيق العدالة المجالية.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل نحن فعلاً أمام لحظة تحول تاريخي في تدبير الشأن المحلي، أم أننا بصدد إعادة تكرار الوعود ذاتها بصياغات جديدة؟
تحول في الخطاب… فهل يتبعه تحول في الممارسة؟
ما يلفت الانتباه في الخطاب الأخير، ليس فقط نبرته النقدية ضمنيًا، بل أيضا استحضاره لمفهوم النتائج، وإشارته الواضحة إلى أن السياسات السابقة لم ترتقِ إلى حجم الانتظارات. وهذا يعكس توجهاً ملكياً نحو تقييم جريء لمرحلة انتهت، والتمهيد لمرحلة جديدة عنوانها: المحاسبة على المردودية.
لكن التحول الخطابي لا يُقاس بأناقته اللغوية، بل بقدرته على تحريك الإدارة، وإلزام الفاعلين السياسيين والمؤسساتيين بقطيعة مع منطق التدبير بالأهداف الغامضة والموارد المهدورة.
من التدبير العمودي إلى الالتقائية الأفقية
الخطاب الملكي أشار إلى ضرورة “التقائية السياسات العمومية”، وهذا يتطلب ليس فقط تنسيقا بين الوزارات، بل بالأساس تناغماً بين مستويات الحكم: الدولة، والجهات، والجماعات الترابية.
فالتنمية الترابية لا تنجح بقرارات مركزية معزولة، ولا بمبادرات محلية مرتجلة. إنما بنموذج تدبير قائم على التوزيع الذكي للأدوار، وعلى فهم دينامية الأقاليم وخصوصياتها، وعلى وضوح في من يتحمل المسؤولية، ومن يُحاسب.
لكن التحدي الحقيقي يكمن في الثقافة السياسية السائدة: هل تقبل النخب المحلية بأن تتحول من مراكز نفوذ انتخابي إلى فاعلين في التنمية؟ وهل تمتلك الحكومة أدوات إلزام هذه النخب بعقود نتائج واضحة المعالم؟
ما بين الطموح الوطني ومحدودية الفاعلين
يتزامن هذا الإعلان عن الجيل الجديد من التنمية الترابية مع سياق سياسي يشهد أزمة ثقة في المؤسسات، ومحدودية في الأداء السياسي للأحزاب، خصوصاً على مستوى الجماعات والجهات.
فالميثاق الوطني المقترح، لن يكون مجرد وثيقة توجيهية، بل ينبغي أن يكون بمثابة تعاقد سياسي جديد، يُخضع كل من يتولى تدبير الشأن المحلي لمنطق التقييم الدوري وربط الدعم بالنتائج.
لكن كيف يمكن تحقيق ذلك في ظل إدارة لا تزال في جزء كبير منها تُقاوم التغيير، وفي ظل نخب ترى في الجماعات امتيازاً انتخابياً لا مسؤولية تنموية؟
الصحراء المغربية: النموذج التنموي الممكن… ولكن!
الخطاب الملكي أشار إلى الدينامية التي تعرفها الأقاليم الجنوبية كنموذج ناجح للتنمية المندمجة. وهو أمر واقعي، بالنظر إلى ما تحقق في العيون والداخلة من بنية تحتية ومشاريع مهيكلة.
لكن هذا النموذج لا يمكن نسخه ببساطة على باقي الجهات، لأنه يستند إلى رعاية سيادية استثنائية، وإلى إجماع وطني خاص بقضية الوحدة الترابية.
فالسؤال هو: كيف نحوّل هذه التجربة إلى مرجعية قابلة للتكييف مع خصوصيات جهات أخرى تعاني الهشاشة، والنزاعات المحلية، وضعف الإطار البشري المؤهل؟
اللحظة الفاصلة: إمّا الإقلاع أو التآكل
نحن أمام مفترق طرق حقيقي: فإما أن يشكّل هذا “الجيل الجديد” قطيعة فعلية مع منطق التباهي بالبرامج غير المُفعّلة، و”تدشين المشاريع بالتصريحات”، أو نُعيد إنتاج نموذج تنموي موسمي، قائم على انتظار المناسبات.
المطلوب اليوم ليس فقط خططاً جديدة، بل نخب جديدة بعقلية جديدة، تؤمن أن التنمية ليست وسيلة للوصول إلى السلطة، بل مسؤولية تجاه الناس والمجالات.
أسئلة للمستقبل:
-
هل تمتلك الدولة أدوات فعالة لمراقبة التنزيل الترابي وربط الدعم بالنتائج؟
-
كيف يمكن تغيير الثقافة السياسية المحلية لتحمل مسؤولية تنموية حقيقية؟
-
هل يكون الميثاق الوطني فرصة لمحاسبة الفاعلين أم مجرد وثيقة توجيهية أخرى؟
-
وهل نحن أمام لحظة إقلاع حقيقية أم مجرد تجميل للواقع بخطاب طموح؟